الوقت- في ظل التحولات السياسية المتسارعة التي يشهدها الملف الفلسطيني، ومع إقدام عدد متزايد من دول العالم على الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، تتصاعد على الأرض في الضفة الغربية موجة غير مسبوقة من العنف والقتل الممنهج بحق المدنيين الفلسطينيين، هذا التصعيد لم يعد يقتصر على الاقتحامات أو الاعتقالات، بل بلغ حد الإعدامات الميدانية العلنية، كما تجسّد في جريمة استهداف مسن فلسطيني يبلغ من العمر 57 عامًا قرب حاجز عسكري جنوب نابلس، حيث أطلق جنود الاحتلال عليه عشرين رصاصة رغم أنه لم يكن يحمل سوى زجاجة ماء بلاستيكية، هذه الجريمة، بما تحمله من دلالات إنسانية وسياسية، تختصر واقع الضفة الغربية اليوم، حيث يُقابَل أي تقدم سياسي فلسطيني بمزيد من الرصاص، وتُترجم سياسات الاحتلال إلى عنف دموي لا يميّز بين مسن وشاب، ولا بين مدني وأي ذريعة أمنية.
الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية وردّ الاحتلال
خلال الأشهر الأخيرة، أعلنت عدة دول حول العالم اعترافها الرسمي بالدولة الفلسطينية، في خطوة تحمل دلالات سياسية وقانونية مهمة، وتعبّر عن تصاعد الغضب الدولي من ممارسات الاحتلال، وخصوصًا في ظل الحرب المستمرة على غزة والانتهاكات المتواصلة في الضفة الغربية، هذا الاعتراف، وإن كان رمزيًا في بعض جوانبه، إلا أنه شكّل مصدر قلق حقيقياً للحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، التي ترى في أي اعتراف بالحقوق الفلسطينية مساسًا بجوهر مشروعها الاستيطاني.
ردّ الاحتلال لم يأتِ عبر المسارات الدبلوماسية أو القانونية، بل تُرجم مباشرة إلى تصعيد ميداني، تمثل في تكثيف الاقتحامات العسكرية، وازدياد حالات الإعدام الميداني، وإطلاق العنان للمستوطنين لممارسة عنف غير مسبوق بحق الفلسطينيين، في محاولة لإعادة فرض منطق القوة وكسر أي شعور فلسطيني أو دولي بإمكانية تحقيق مكاسب سياسية.
عنف المستوطنين… من ظاهرة هامشية إلى سياسة ممنهجة
بلغت هجمات المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة مستويات غير مسبوقة خلال الأشهر القليلة الماضية، لم تعد هذه الاعتداءات حوادث فردية معزولة، كما تحاول حكومة الاحتلال تصويرها، بل تحولت إلى نمط منظم ومتكرر، يستهدف القرى والتجمعات الفلسطينية، ويشمل الاعتداء الجسدي، وتخريب الممتلكات، وإحراق المنازل والمركبات، وقطع الطرق، والاعتداء على المزارعين والرعاة.
ناشطون ومنظمات حقوق إنسان محلية ودولية يؤكدون أن هذا العنف يجري تحت مظلة رسمية واضحة، فغالبًا ما تتم هجمات المستوطنين بحضور جنود جيش الاحتلال، الذين لا يكتفون بعدم التدخل، بل يوفرون الحماية للمهاجمين، ويمنعون الفلسطينيين من الدفاع عن أنفسهم، في كثير من الحالات، يُعتقل الضحايا الفلسطينيون بدلًا من محاسبة المستوطنين، ما يعزز ثقافة الإفلات من العقاب، ويشجع على مزيد من الجرائم.
إعدام مسن فلسطيني… جريمة تختصر المشهد
من بين الجرائم التي تعكس ذروة هذا التصعيد، تبرز جريمة استهداف المسن الفلسطيني أحمد شحادة، البالغ من العمر 57 عامًا، قرب حاجز عسكري جنوب مدينة نابلس في سبتمبر الماضي، حسب اعتراف جنود من جيش الاحتلال الصهيوني، تم إطلاق النار على شحادة رغم أنه كان يحمل زجاجة ماء بلاستيكية فقط، ولم يشكل أي تهديد حقيقي.
ووفق ما أفاد به المكتب الدولي لوكالة ويبانقاه الإخبارية، أطلق الجنود 18 رصاصة على المسن الفلسطيني، ثم أُتبعت بـ8 رصاصات إضافية بعد سقوطه أرضًا، عائلة الشهيد أكدت لاحقًا العثور على 20 أثرًا لطلقات نارية في جسده، ما يؤكد أن ما جرى لم يكن “خطأً” أو “اشتباهًا”، بل عملية إعدام ميداني مكتملة الأركان.
الأخطر أن جيش الاحتلال لم يفتح أي تحقيق جنائي مستقل في الحادث، ولم يصدر عن الجنود أي تحذير مسبق قبل إطلاق النار، في انتهاك واضح حتى لقواعد الاشتباك التي يدّعي الجيش الالتزام بها، هذا الصمت الرسمي يعكس رسالة واضحة: دم الفلسطيني مباح، ولا مساءلة على القتل.
شمال الضفة… بؤرة التصعيد المفتوح
تتركز غالبية الاعتداءات في مناطق شمال الضفة الغربية، ولا سيما في نابلس وجنين وطولكرم، حيث تتقاطع كثافة الاستيطان مع النشاط الشعبي المقاوم، في هذه المناطق، يعيش الفلسطينيون تحت ضغط دائم، يتمثل في الاقتحامات الليلية، والحواجز المفاجئة، وهجمات المستوطنين، في محاولة لتفريغ هذه المناطق من أي قدرة على الصمود أو المقاومة.
هذا التصعيد لا يمكن فصله عن مشروع السيطرة الإسرائيلية على الأرض، فالعنف هنا ليس عشوائيًا، بل أداة سياسية تهدف إلى تهجير الفلسطينيين تدريجيًا، وتوسيع رقعة المستوطنات، وفرض واقع ديموغرافي جديد يجعل من فكرة الدولة الفلسطينية أمرًا شبه مستحيل على الأرض.
إنكار رسمي وصمت دولي
رغم وضوح الانتهاكات، تواصل حكومة الاحتلال إنكار مسؤوليتها، وتصرّ على تصوير عنف المستوطنين كتصرفات “أفراد متطرفين”، هذا الخطاب يتناقض كليًا مع الوقائع الميدانية، ومع شهادات الضحايا، ومع تقارير منظمات حقوق الإنسان، التي تؤكد وجود تنسيق فعلي بين الجيش والمستوطنين.
في المقابل، يكتفي المجتمع الدولي، في معظم الأحيان، ببيانات إدانة خجولة، لا ترتقي إلى مستوى الجرائم المرتكبة، ورغم الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لم تُترجم هذه الخطوات إلى إجراءات عملية تحمي المدنيين الفلسطينيين أو تفرض عقوبات رادعة على الاحتلال، ما يشجع الأخير على المضي قدمًا في سياساته دون خوف من المحاسبة.
ختام القول
إن تصاعد موجة العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وخاصة بعد الاعتراف الدولي المتزايد بالدولة الفلسطينية، يكشف بوضوح أن كيان الاحتلال يتعامل مع السياسة بلغة الرصاص، ومع القانون الدولي بمنطق القوة، جريمة إعدام مسن أعزل بإطلاق عشرين رصاصة عليه ليست حادثًا استثنائيًا، بل تعبيراً مكثفاً عن منظومة كاملة من القتل والإفلات من العقاب.
أمام هذا الواقع، يبقى الاعتراف بالدولة الفلسطينية خطوة مهمة لكنها غير كافية ما لم تُرفق بإجراءات حقيقية تحمي الفلسطينيين وتضع حدًا لجرائم الاحتلال، فبدون مساءلة حقيقية، سيظل الرصاص هو الردّ الإسرائيلي الدائم على أي محاولة فلسطينية لنيل الحرية والكرامة، وستبقى الضفة الغربية ساحة مفتوحة لعنف منظم يُدار باسم الأمن، ويُنفّذ باسم الاستيطان.
