الوقت- شهدت مدن إسرائيلية عدة تظاهرات واسعة خرج فيها آلاف الإسرائيليين احتجاجاً على حكومة بنيامين نتنياهو، مطالبين بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في ما وصفوه بإخفاقات السابع من أكتوبر، هذه الاحتجاجات لا يمكن النظر إليها باعتبارها رد فعل عاطفياً مؤقتاً على حدث أمني فحسب، بل تعكس حالة تراكمية من الغضب الشعبي تجاه أداء الحكومة الحالية، فحادثة “طوفان الأقصى” شكّلت صدمة غير مسبوقة للمجتمع الإسرائيلي، ليس فقط بسبب نتائجها الأمنية والعسكرية، بل لأنها هزّت صورة الدولة القادرة على حماية مواطنيها، وهي الصورة التي طالما شكّلت ركناً أساسياً في الخطاب السياسي الإسرائيلي.
السابع من أكتوبر كمنعطف سياسي
يُنظر إلى السابع من أكتوبر بوصفه منعطفاً حاداً في الوعي السياسي والأمني داخل "إسرائيل"، فالهجوم كشف عن ثغرات عميقة في المنظومة الاستخبارية والعسكرية، وأثار تساؤلات جدية حول كفاءة القيادة السياسية التي كانت منشغلة بصراعات داخلية وخلافات حول التعديلات القضائية، كثير من المحتجين يرون أن ما حدث لم يكن مجرد فشل تقني، بل نتيجة مباشرة لسياسات طويلة الأمد اتسمت بالاستخفاف بالتحذيرات، والانشغال بالحفاظ على السلطة بدلاً من التركيز على الأمن، من هنا جاءت المطالبة بلجنة تحقيق رسمية باعتبارها أداة لمحاسبة المسؤولين وكشف الحقيقة للرأي العام.
تراجع شعبية نتنياهو في استطلاعات الرأي
تتزامن هذه الاحتجاجات مع مؤشرات واضحة على تراجع شعبية بنيامين نتنياهو وتياره السياسي وفق استطلاعات رأي حديثة داخل الأراضي المحتلة، فشريحة متزايدة من الإسرائيليين باتت ترى أن نتنياهو لم يعد يمثل رجل الأمن القوي القادر على إدارة الأزمات، وتعكس هذه القناعة خيبة أمل متراكمة من خطاب سياسي لم يعد ينسجم مع الواقع الأمني المتدهور، هذا التراجع لا يقتصر على شخصه فقط، بل يمتد إلى التحالف الحاكم بأكمله، الذي يُتهم بالعجز والانقسام. الاحتجاجات في الشارع تعكس هذه النتائج، إذ بات الغضب موجهاً نحو القيادة السياسية أكثر من كونه موجهاً نحو التهديدات الخارجية، في تحول لافت في أولويات الرأي العام الإسرائيلي.
أزمة ثقة بين الشارع والقيادة
ما يميز هذه الموجة من التظاهرات هو عمق أزمة الثقة التي تكشفها بين الشارع الإسرائيلي وقيادته، فالمحتجون لا يطالبون فقط بتغيير سياسات أو تحسين الأداء، بل يشككون في أهلية الحكومة للاستمرار، هذا المستوى من النقد العلني يعكس شعوراً عاماً بأن العقد غير المعلن بين الدولة ومواطنيها، والقائم على توفير الأمن مقابل الولاء، قد تعرّض لخلل خطير، كما يرى كثيرون أن غياب المحاسبة يعمّق الإحباط ويقوّض شرعية القيادة الحالية، ومع استمرار الحرب وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، تتعمق هذه الأزمة، ما يجعل الاحتجاجات مرشحة للاستمرار وربما التصاعد، في ظل غياب أفق سياسي واضح لاحتوائها.
دور الشارع الإسرائيلي في كسر الخطوط الحمراء
تمثل هذه التظاهرات مؤشراً مهماً على تحوّل دور الشارع الإسرائيلي من متلقٍ للقرارات إلى فاعل ضاغط في المشهد السياسي، فالاحتجاج خلال فترة صراع عسكري يُعد كسراً لخطوط حمراء لطالما التزمت بها قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي تحت ذريعة الوحدة في زمن الحرب، غير أن حجم الإخفاقات، وغياب الشفافية الحكومية، دفعا المحتجين إلى تجاوز هذا الاعتبار، هذا التحرك الشعبي يعبّر عن قناعة متنامية بأن الصمت لم يعد خياراً، وأن الضغط الداخلي قد يكون الوسيلة الوحيدة لفرض المحاسبة وإعادة رسم أولويات القيادة السياسية.
انقسام النخب السياسية والإعلامية
لم تقتصر تداعيات الاحتجاجات على الشارع فقط، بل امتدت إلى النخب السياسية والإعلامية داخل "إسرائيل"، حيث برز انقسام واضح في المواقف، فبينما تحاول أطراف في الحكومة التقليل من أهمية التظاهرات ووصمها بأنها مسيّسة، ترى أصوات أخرى أن تجاهلها سيؤدي إلى تعميق الأزمة، وسائل الإعلام بدورها تعكس هذا الانقسام، إذ بات بعضها أكثر جرأة في طرح الأسئلة المحرجة حول مسؤولية القيادة، هذا التباين في الخطاب يكشف عن حالة ارتباك عام داخل المنظومة الحاكمة، ويعكس تراجع القدرة على توحيد الرواية الرسمية أمام الرأي العام.
التداعيات السياسية المحتملة
سياسياً، تضع هذه التطورات نتنياهو أمام خيارات صعبة، فإما الاستجابة لمطالب الشارع عبر خطوات قد تضعف موقعه، مثل القبول بلجنة تحقيق مستقلة، أو الاستمرار في سياسة المراوغة وتحميل المسؤولية للمؤسسة العسكرية والأمنية. كلا الخيارين يحملان مخاطر كبيرة. فالأول قد يكشف إخفاقات مباشرة للحكومة، والثاني قد يزيد من غضب الشارع ويعمّق الانقسام الداخلي، وفي كلتا الحالتين، يبدو أن المشهد السياسي الإسرائيلي مقبل على مرحلة من عدم الاستقرار، مع تزايد الحديث عن انتخابات مبكرة أو تغييرات في تركيبة الحكم.
مستقبل نتنياهو بين البقاء والمساءلة
في ضوء هذه التطورات، يبدو مستقبل بنيامين نتنياهو السياسي أكثر غموضاً من أي وقت مضى، فاستمرار الاحتجاجات، وتراجع الشعبية، وتزايد المطالب بالمحاسبة، كلها عوامل تضغط باتجاه إنهاء حقبة سياسية طويلة، ومع أن نتنياهو يمتلك خبرة كبيرة في المناورة السياسية، إلا أن حجم الأزمة الحالية يتجاوز الأزمات السابقة التي واجهها. فهذه المرة، لا يتعلق الأمر بملف قضائي أو خلاف سياسي، بل بحدث يمس الأمن والوجود، لذلك، قد تشكّل هذه المرحلة بداية نهاية لهيمنته على المشهد السياسي الإسرائيلي.
دلالات أعمق للمشهد الإسرائيلي
تعكس هذه الاحتجاجات دلالات أعمق تتجاوز شخص نتنياهو، إذ تشير إلى تحوّل في المزاج العام داخل "إسرائيل" تجاه مفهوم القيادة والأمن، فالهالة التي أحاطت باليمين الإسرائيلي كضامن للأمن بدأت تتآكل، وحلّ محلها شعور بالشك والمساءلة، كما أن تصاعد الاحتجاجات في زمن الحرب يكشف عن هشاشة الجبهة الداخلية، وهو عامل لطالما اعتُبر نقطة قوة إسرائيل. في هذا السياق، يمكن القول إن تظاهرات اليوم ليست مجرد حدث عابر، بل مؤشر على مرحلة جديدة من الصراع الداخلي قد تترك آثاراً طويلة الأمد على مستقبل النظام السياسي الإسرائيلي.
