الوقت – يسعى دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة، تحقيق مآرب جديدة في أرجاء غرب آسيا، ساعياً لتبديل ملامح المنطقة وفق مصالح الكيان الصهيوني، وقد حاك خيوط مؤامرات متجددة للدول التي تأبى الانخراط في فلك السياسة الأمريكية، وفي هذا المضمار، تبوأ العراق مكانةً محوريةً في استراتيجية ترامب الخارجية، نظراً لما يزخر به من موقع جيوسياسي فريد وكنوز هائلة من النفط والغاز الطبيعي.
وعلى الرغم من امتلاك الولايات المتحدة أكبر سفارة أجنبية في بغداد تعجّ بالسفراء والدبلوماسيين، فقد ارتأى ترامب إيفاد مبعوث خاص لدفع عجلة المصالح الأمريكية في العراق.
کتب ترامب عبر منصة “تروث سوشال” قائلاً: “يغمرني السرور بالإعلان عن تنصيب مارك ساوايا مبعوثاً خاصاً إلى العراق”، وأشاد بفهمه العميق لنسيج العلاقات العراقية-الأمريكية وشبكة صلاته الإقليمية الوطيدة، مؤكداً أنه سيضطلع بدور جوهري في خدمة مصالح الشعب الأمريكي في غرب آسيا.
من هو ساوايا؟ خلفيات المبعوث الخاص وأوراق اعتماده
مارك ساوايا رجل أعمال تنحدر أصوله من العراق، نشأ في منطقة ديترويت، وهو مؤسس سلسلة صيدليات للماريجوانا، اضطلع ساوايا بدور محوري في الحملة الانتخابية لترامب بولاية ميشيغان، وأسهم بقسط وافر في استمالة أصوات المسلمين الأمريكيين لمصلحة سيد البيت الأبيض، ابتدع في حملاته الدعائية لافتات تحمل شعار “هلم واظفر بماريجوانا مجانية”، ما أثار زوبعةً من الانتقادات من قبل المسؤولين المحليين.
علاوةً على ذلك، ذاع صيته كمؤثر على منصة إنستغرام، وتكشف التقارير والصور المنتشرة في فضاء التواصل الاجتماعي عن علاقة وثيقة العرى تربطه بترامب، إذ نشر في صفحته الشخصية صوراً تجمعه بالرئيس في محافل شتى وملاعب الغولف.
تلمح وسائل الإعلام الأمريكية إلى أن هذا التعيين يعكس مجدداً مدى قرب الحلقات الموالية لترامب من دوائر صنع القرار، حتى في المجال الشائك للسياسة الخارجية.
يأتي هذا التنصيب بعد أسبوع واحد من توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الكيان الصهيوني وحماس، والذي يُفترض أن يدشن فصلاً جديداً على مسرح الأحداث الإقليمية وفقاً لتصريحات ترامب ومخططاته.
مرامي ترامب من إيفاد مبعوث خاص للعراق
تتجاوز غاية ترامب من اختيار مبعوث خاص للعراق حدود العلاقات الدبلوماسية المعهودة، يعكس هذا القرار عزم الإدارة الأمريكية على إدارة الملف العراقي مباشرةً من أروقة البيت الأبيض، لتسريع وتيرة تنفيذ سياسات واشنطن وإحكام قبضة الرقابة عليها.
يتطلع ترامب في ولايته الرئاسية الثانية إلى إتمام مشروعه غير المكتمل لتطبيع العلاقات بين الدول العربية والكيان الصهيوني في إطار “اتفاقيات أبراهام”، وهو يرى أن توسيع دائرة التطبيع سيكفل أمن الأراضي المحتلة، ويرسخ دعائم تل أبيب في أرجاء غرب آسيا.
في هذا السياق، يمثّل العراق إحدى الدول المحورية التي يسعى ترامب، من خلال الضغوط السياسية والاقتصادية، إلى ضمها إلى معسكر التطبيع إلى جانب المملكة العربية السعودية.
وبما أن ترامب ولج عالم السياسة بعقلية التاجر الذي لا يرى سوى الأرقام، فإنه يضع المصالح الاقتصادية في صدارة أولوياته، لذا، يمكن اعتبار تنصيب مبعوث خاص للعراق خطوةً محسوبةً بدقة لضمان وصول واشنطن إلى كنوز النفط والغاز الهائلة في هذا البلد العريق.
صرح ترامب بوضوح في مؤتمر “شرم الشيخ” أن العراق يختزن في باطن أرضه احتياطيات ضخمة من النفط، لكنه يجهل سبل استثمارها، وسبق له التأكيد على أن الولايات المتحدة بذلت من خزائنها أكثر من سبعة تريليونات دولار في الشرق الأوسط، وتتوقع من الدول العربية في المنطقة، بما فيها العراق، تعويض شطر من هذه النفقات الباهظة.
بهذه التصريحات، يوجّه ترامب رسالةً فحواها أن العراقيين يفتقرون إلى الدراية اللازمة لإدارة واستثمار ثرواتهم النفطية والغازية بكفاءة، وبالتالي ستؤتي هذه الموارد ثمارها إذا خضعت لإشراف وتوجيه أمريكي.
تتساوق هذه المواقف مع رؤية ترامب الشاملة للمنطقة، التي تعتبر موارد الطاقة ركيزةً محوريةً لتحقيق المآرب الاقتصادية والجيوسياسية الأمريكية، وتكشف أن وجود واشنطن في غرب آسيا ليس لدواعٍ أمنية فحسب، بل للسيطرة على مصادر الطاقة الاستراتيجية واستنزافها.
تمهّد هذه النظرة السبيل أيضاً لممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على حكومة بغداد، لمراعاة إملاءات واشنطن في مجال الطاقة والعقود النفطية.
وعليه، فإن وجود مبعوث خاص يتيح لأمريكا التدخل السافر في القرارات الاقتصادية وقطاع الطاقة في العراق خارج الأطر الدبلوماسية المتعارف عليها، وتيسير إبرام عقود جديدة بين الشركات الأمريكية والعراق، ويمكن تفسير الاتفاقيات المبرمة سابقاً بين الشركات الأمريكية وحكومة إقليم كردستان، في ضوء هذه الرؤية الاقتصادية النفعية.
من جهة أخرى، يبتغي ترامب من تنصيب مبعوث خاص في العراق مجابهة النفوذ المتنامي لفصائل المقاومة في هذا البلد، يعتقد ترامب أن نفوذ وتعاظم شوكة هذه الجماعات، التي تربطها أواصر وثيقة بإيران ومحور المقاومة، يقف حجر عثرة أمام تحقيق مآرب أمريكا في العراق والمنطقة، لذلك، وقبل ثلاثة أسابيع من الانتخابات البرلمانية العراقية، كُلّف ساوايا بمهمة تقليم أظافر هذه الجماعات من خلال التيارات السياسية المنضوية تحت عباءة واشنطن، ودفع حكومة بغداد نحو مواكبة السياسات الأمريكية.
لقد أدركت أمريكا أن فصائل المقاومة في العراق تشكّل سداً منيعاً أمام تنفيذ مخططاتها، وأنه طالما احتفظت هذه التيارات بنفوذ راسخ، فإن أي محاولة للهيمنة على المشهد السياسي والاقتصادي والأمني في العراق ستبوء بالإخفاق الذريع.
توجيه البنى السيادية العراقية نحو مشارب التطبيع
نادراً ما تسعى أمريكا إلى تفاعل بنّاء مع الحكومات المحلية في البلدان التي توفد إليها مبعوثين خاصين، بل ترمي هذه التعيينات غالباً إلى زعزعة أركان الاستقرار وإحداث تحولات جذرية في النسيج السياسي والأمني لتلك البلدان، تمكّن هذه الإجراءات واشنطن من ترسيخ نفوذها في دهاليز المؤسسات الحكومية والقوات الأمنية، وتكميم أفواه التيارات المعارضة، وتوجيه دفة السياسات الداخلية للبلد المستهدف صوب مصالح وأهداف أمريكا الاستراتيجية.
على سبيل المثال، أنيطت بتوم باراك، المبعوث الأمريكي الخاص لشؤون سوريا، مهمة تمهيد الطريق لتحقيق التغييرات التي تنشدها واشنطن خلال المرحلة الانتقالية السياسية بعد تنحي بشار الأسد، وفي لبنان، يعمل على تقويض أركان حزب الله وضمان أمن الأراضي المحتلة، بهدف مواءمة سياسات الحكومة اللبنانية مع توجهات واشنطن ودفعها في نهاية المطاف نحو تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني.
كما اضطلع أشخاص من أمثال “ستيف ويتكاف” و"جاريد كوشنر" بمهام مماثلة في ملفي إيران والصراع الفلسطيني، وهي ملفات كانت أولويتها القصوى، مثل سائر مخططات ترامب الإقليمية، ضمان أمن تل أبيب وتوجيه دفة سياسات البيت الأبيض بشكل مباشر.
في واقع الأمر، صيغت جميع البرامج الأمريكية في العامين المنصرمين بهدف توجيه المنطقة سياسياً واقتصادياً بما يخدم مصالح وأمن الكيان الصهيوني، ويمكن تحليل تنصيب ساوايا في هذا الإطار باعتباره محاولةً لإحكام قبضة واشنطن على مقدرات العراق، ومواءمة سياساته مع أهداف تل أبيب والبيت الأبيض.