الوقت- بعد عقد كامل من توقيع الاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة) وتعليق سيف العقوبات الأممية بإقرار القرار 2231 من مجلس الأمن، بلغ هذا القرار محطته النهائية في الثامن عشر من أكتوبر عام 2025.
وبناءً على ذلك، تتلاشى رسمياً الأغلال التي كبّلت البرامج النووية والصاروخية والتسليحية الإيرانية وآليات الرقابة المتصلة بها، ولم تعد إيران من منظور القانون الدولي رازحةً تحت نير القيود السابقة، يمنح هذا التحول المفصلي طهران فسحةً جديدةً للانطلاق بحرية أرحب في ميادين التجارة الدولية، وفضاءات التعاون الاقتصادي، وساحات العلاقات السياسية والأمنية، وتعزيز حضورها على مسرح الأحداث العالمية، بيد أن مراسم ختام هذا القرار العشري لم تخل من عواصف التحديات.
معترك البيانات
على الرغم من انقضاء قرار مجلس الأمن، قدّم أطراف الاتفاق النووي، الذين انشطروا عملياً إلى معسكرين شرقي وغربي، تأويلات ومواقف متباينة إزاء مآل هذا القرار، فقد أكدت إيران وروسيا والصين، عبر رسائل منفردة ومجتمعة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، على الانقضاء الحتمي للقرار 2231 وضرورة استعادة الوضع الطبيعي للملف النووي الإيراني بصورة شاملة.
ناشدت إيران في رسالتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة، مشيرةً إلى انقضاء الاتفاق النووي والقرار 2231 رسمياً في الثامن عشر من أكتوبر، بنفض يد مجلس الأمن عن القضية النووية الإيرانية والتعامل معها كأي برنامج نووي لدولة غير نووية منضوية تحت لواء معاهدة منع الانتشار، وجاء في البيان أن الدول لم تعد مكبلةً بقرارات العقوبات المنصرمة الصادرة عن مجلس الأمن، مؤكداً أن وضع القضية الإيرانية في الوكالة الدولية للطاقة الذرية سيشهد تحولاً جذرياً، وأن مديرها العام لم يعد مطالباً بتقديم تقارير حول الاتفاق النووي.
وشددت وزارة الخارجية الروسية في بيان لها على أن انقضاء أجل القرار 2231 يعني تلاشي جميع بنوده، بما فيها الأغلال والإجراءات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني بشكل تام، وأن على مجلس الأمن طيّ صفحة المسائل المتصلة بالبرنامج النووي الإيراني، ومحو بند “عدم الانتشار” من قائمة الموضوعات المدرجة على جدول أعماله.
كما رُفعت رسالة مشتركة من إيران وروسيا والصين إلى الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن، أشارت إلى الاختتام الرسمي للقرار 2231 وزوال جميع القيود التسليحية والنووية.
من وجهة نظر هذه الدول، فإن استمرار أي قيود أو ضغوط سياسية على إيران بعد انصرام الأجل القانوني للقرار يفتقر إلى الأساس القانوني، وينبغي أن يفسح المجال للتعاون المتبادل وتشييد جسور الثقة، يعكس هذا النهج استمرار الهوة السحيقة بين رؤى القوى الشرقية والغربية تجاه مستقبل البرنامج النووي، ومكانة إيران في النظام الدولي.
في المقابل، تزعم الدول الأوروبية، التي فعّلت مؤخراً "آلية الزناد" لتمهيد عودة عقوبات الأمم المتحدة ضد إيران، أنه حتى مع انتهاء مدة القرار 2231، ينبغي أن تستمر الأغلال النووية والتسليحية المفروضة على إيران.
في هذا السياق، أصدر الاتحاد الأوروبي، مواصلاً مواقفه غير البناءة بشأن القضية النووية الإيرانية، بياناً جديداً أعلن فيه أن عدة دول غير أعضاء في الاتحاد، منها ألبانيا والنرويج وصربيا وأوكرانيا، انحازت إلى قرار المجلس الأوروبي بإعادة فرض العقوبات النووية على إيران في أعقاب تفعيل آلية “سناب باك”، وأعلن مجلس الاتحاد الأوروبي في قراره الجديد أنه سيعيد فرض تدابير تقييدية على واردات النفط الخام والغاز الطبيعي والمنتجات البتروكيماوية والنفطية من إيران، وكذلك على بيع وتوريد المعدات الرئيسية المستخدمة في قطاع الطاقة، والذهب وبعض المعادن والماس، والمعدات البحرية الخاصة والبرمجيات ذات الصلة.
الاصطفاف الدولي
في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة والترويكا الأوروبية إلى توظيف أدوات الدبلوماسية والإعلام لنسج إجماع عالمي جديد ضد إيران، تشير وقائع السياسة والعلاقات الدولية إلى تبدل المعادلات العالمية مقارنةً بالأمس الغابر. فخلافاً للسنين الماضية حين كانت الضغوط الغربية تلقى صدى واسعاً من الدول، نجد هذه المرة أن سواد الحكومات لا تميل إلى مجاراة السياسات الأحادية لواشنطن وبروكسل، ولا ترتضي المشاركة في إجراءات تُعد مخالفةً لمبادئ القانون الدولي.
إن الدول التي يحاول الاتحاد الأوروبي الاستناد إلى ظهرها للضغط على طهران، لا تلعب دوراً ذا بال في المعادلات العالمية، وكثير منها، لا سيما أوكرانيا، لا تملك صلات اقتصادية أو تجارية معتبرة مع إيران يمكنها التأثير فعلياً على مسار التفاعلات الاقتصادية أو الدبلوماسية لطهران، يكشف هذا المشهد أن سياسة الضغط والوعيد لم تعد تتمتع بالنجاعة السابقة، وأن الشرخ بين الغرب وسائر القوى، خاصةً في دول الجنوب والشرق، أضحى حقيقةً راسخةً في النظام الدولي الجديد.
في مواجهة مساعي الغرب، أعلنت إيران وحليفاها الاستراتيجيان روسيا والصين، بوصفهما عضوين دائمين في مجلس الأمن، مراراً وبجلاء معارضتهما للإجراءات الغربية الأحادية وغير القانونية، وتؤكد هذه الدول أن تفعيل آلية “سناب باك” وإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران باطل قانونياً وسياسياً، وبالتالي لن تنفذه.
إن توقيع روسيا فور تفعيل آلية “سناب باك” عقداً جديداً لتشييد محطة طاقة في إيران، وإعلان الصين أنها ستتصدى للعقوبات الغربية ضد الشركات المتعاونة مع إيران، ينبئ بأن الغربيين عاجزون عن إرغام إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات وانتزاع تنازلات منها عبر الضغط الأقصى.
كذلك، أكدت أكثر من 121 دولة في اجتماع وزراء خارجية حركة عدم الانحياز الذي عُقد قبل أيام، على ضرورة إسدال الستار على القرار 2231 رسمياً. وفي الوقت نفسه، أصدرت مجموعة أصدقاء الدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة بياناً بمناسبة انقضاء القرار 2231، أشارت فيه إلى الانسحاب الأحادي للولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018 وإعادة فرض العقوبات غير القانونية على إيران، وكذلك تقصير الدول الأوروبية الثلاث في الوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاق، مؤكدةً أن إجراءها في تفعيل آلية “سناب باك” يفتقر إلى أي أساس قانوني وإجرائي.
وبين دول حركة عدم الانحياز، تتألق قوى صاعدة مثل الهند التي سعت في السنوات الأخيرة إلى توطيد علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع طهران، وفي هذا المضمار، تكشف إحصاءات الملاحة البحرية الإيرانية الأخيرة أن حجم التجارة في ميناء الشهيد بهشتي “تشابهار” قد تضاعف ثلاث مرات في الأشهر الستة الأولى من عام 2025 مقارنةً بالفترة نفسها من العام المنصرم، ويرتبط جزء منها بالتبادل التجاري مع الهند. يعكس هذا النمو الباهر أن تهديدات واشنطن وضغوطها لصدّ الدول عن التعامل مع إيران، باءت بالإخفاق.
علاوةً على ذلك، حتى بعض حلفاء الغرب لا يميلون إلى المواءمة التامة مع سياسات الضغط التي تنتهجها واشنطن وبروكسل، فعلى سبيل المثال، امتنعت كوريا الجنوبية عن التصويت على قرار منع تفعيل آلية “سناب باك” في اجتماع مجلس الأمن الأخير، وهو ما يمثّل علامةً بارزةً على تداعي تماسك الجبهة الغربية وتصاعد الشكوك بين حلفاء أمريكا حول سداد وجدوى نهج المواجهة مع إيران.
وهكذا، اصطدمت المساعي الحثيثة للولايات المتحدة وأوروبا لنسج إجماع عالمي مماثل لما شهدناه في العقد المنصرم، بمأزق سياسي ودبلوماسي هذه المرة، وعليه، فإن أي إجراء محتمل لإحياء العقوبات أو إعادة فرض الضغوط الدولية ضد إيران في غياب السند العالمي، سيكون محكوماً بالفشل الذريع.
التنسيقات الأخيرة: لاريجاني في موسكو
تزامناً مع انقضاء أجل القرار 2231، حطّ علي لاريجاني، أمين مجلس الأمن القومي الإيراني، رحاله في روسيا للتباحث مع كبار المسؤولين الروس حول العلاقات الثنائية.
في خضم هذه الأجواء المشحونة بين طهران والغربيين، تمثّل زيارة لاريجاني إلى موسكو دلالةً على المشاورات الاستراتيجية بين طهران وموسكو للولوج إلى مرحلة ما بعد الاتفاق النووي، حيث تسعى إيران في هذه المرحلة إلى إعلاء مكانتها في المعادلات العالمية، وإبطال مفعول العقوبات الغربية بالاستناد إلى شركائها في المشرق.
ومن الجدير بالذكر أن روسيا تتقلد حالياً الرئاسة الدورية لمجلس الأمن، ويمكنها من خلال هذا الموقع أن تضطلع بدور فاصل في إجهاض تحركات الغرب ضد طهران. وعلى هذا الأساس، طلبت موسكو من الأمين العام للأمم المتحدة إلغاء تنفيذ عودة العقوبات على إيران التي أُعلنت مؤخراً من قبل أمانة المنظمة. لا يكشف هذا المسعى الروسي عن دعم موسكو الصلب لإيران فحسب، بل يعكس أيضاً القوة والنفوذ العملي للدول الشرقية في مجلس الأمن، القادرة على صدّ تقدم السياسات الأحادية الغربية.
ومع تنامي انسجام المجتمع الدولي مع سياسات إيران وعزوف معظم الدول عن المشاركة في العقوبات الأحادية الغربية بعد رفع القيود، يمكن للسفن التجارية الإيرانية أن تمخر عباب البحار بحرية ودون قيود في المياه الدولية، وخلافاً للماضي، لم تعد هذه السفن مضطرةً إلى إطفاء إشارات التتبع وأنظمة تحديد المواقع عند دخول المياه الدولية، وستتمكن من تنفيذ أنشطتها البحرية بشفافية وقانونية.
انشطار بنية مجلس الأمن
أفضت المعارضة الصارمة من روسيا والصين وعدة أعضاء غير دائمين في مجلس الأمن لتحركات الغرب الرامية لإعادة فرض العقوبات على إيران، إلى انشطار غير مسبوق وخلاف جوهري داخل المجلس، هذا التباين في وجهات النظر حوّل مجلس الأمن، الذي كان من المفترض أن يكون هيئةً للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، إلى حلبة لصراع القوى العظمى، وبالتالي، فإن انقسام المجلس بين الشرق والغرب يطعن في شرعيته وفعاليته في إدارة الأزمات العالمية.
في الواقع، يعكس هذا الانشطار تحولاً عميقاً في ميزان القوى العالمي، ويبرهن على أن النفوذ التقليدي للدول الغربية لم يعد مطلقاً، وأن القوى الصاعدة تقف صامدةً في وجه السياسات الأحادية الأمريكية مستندةً إلى مبادئ التعددية، ونتيجةً لذلك، خيّم الشقاق وانعدام الثقة على بنية مجلس الأمن، وتقهقر دوره كهيئة لضمان السلام العالمي أكثر من أي وقت مضى.