الوقت- مع دنو الذكرى السنوية الثانية لملحمة طوفان الأقصى وعدوان جيش الكيان الصهيوني على غزة، وبينما تواصل حكومة نتنياهو إلقاء الأموال في بئر الحرب السحيق، ألقت هذه الحرب وأعباؤها الباهظة بظلالها الكثيفة على صرح الاقتصاد الإسرائيلي برمته، محوِّلةً إياه من اقتصاد قائم على الابتكار والتقنية، إلى اقتصاد حربي ترزح كواهله تحت أثقال لا تطاق.
لقد دفعت نفقات الحرب المستعرة العجز المتوقع في الميزانية إلى ما يتجاوز 6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتصاعد الدين العام بوتيرة متسارعة جراء الاقتراض الواسع النطاق لتمويل آلة الحرب النهمة التي لا تشبع.
واضطرت الحكومة الصهيونية خلال العامين المنصرمين إلى اقتراض ما يناهز 190 مليار شيكل (قرابة 50 مليار دولار أمريكي)، لسدّ رمق الجيش وتغطية الفجوة المتنامية في الميزانية المثقلة بالديون.
ووفقاً لما جاء في تقرير مؤسسة موديز، ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لتبلغ 75 بالمئة بدلاً من 70 بالمئة المتوقعة سابقاً، في حين يُقدَّر العجز المالي بنحو 8.1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى يشهده الكيان الصهيوني منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008.
وعلى الرغم من المساعي الحثيثة للحكومة لكبح جماح العجز من خلال زيادة الضرائب وتطبيق ما أطلقت عليه “قانون الحرب” البالغ 11 مليار دولار (والذي اشتمل على رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 18 بالمئة، وفرض رسوم جمركية إضافية، وتقليص ميزانيات الوزارات)، إلا أن هذه التدابير لم تفض إلا إلى تقويض القدرة الشرائية للمستهلكين وتأجيج نيران التضخم وانحسار الطلب المحلي، ما ألقى بعبء فادح على كاهل المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
وفي ظل هذه الظروف العصيبة، اضطرت الحكومة إلى تقديم مشروع ميزانية العام القادم إلى الكنيست بعجز يفوق سابقه في العام المنصرم.
وقد أقرّ الكنيست أخيراً خلال الأيام الماضية رفع سقف عجز الميزانية للسنة المالية 2025 إلى 5.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، متجاوزاً النسبة السابقة البالغة 4.9 بالمئة.
ووفقاً لما أوردته وكالة رويترز، جاء هذا القرار نتيجة الحاجة الملحة إلى ميزانية إضافية للنفقات العسكرية تبلغ 31 مليار شيكل (9.35 مليارات دولار).
النفقات العسكرية، نير ثقيل يرهق كاهل اقتصاد الكيان
كشف تقرير نشرته صحيفة كالكاليست الصادرة في الأراضي المحتلة أنه من أصل 31 مليار شيكل، سيُخصص 29 مليار شيكل (8.75 مليارات دولار) مباشرةً للقطاع الأمني، بينما ستظل ميزانية النفقات الاجتماعية العامة رهينةً لسياسة التقشف القاسية.
وأوضحت الصحيفة أن هذه الزيادة في النفقات ستفضي إلى تقليص شامل بنسبة 3.35 بالمئة في ميزانيات الوزارات ابتداءً من العام المقبل، وقد دفع الوضع الاقتصادي المتردي نتنياهو إلى تقليص ميزانية المدارس الدينية أيضاً، رغم إدراكه لاستياء الطيف المتدين من المجتمع ومؤيديه الانتخابيين، وتتضمن ميزانية عام 2025 اقتطاعاً قدره 481 مليون شيكل (145 مليون دولار) من المخصصات التي كانت مرصودةً سابقاً لمعلمي المدارس الدينية.
وحسب ما أفادت به رويترز، وعلى الرغم من الخلافات المستعرة داخل الائتلاف الحاكم، صوّت 55 مشرعاً لمصلحة هذا القرار، بينما عارضه 50 آخرون، ومع ذلك، أشارت كالكاليست إلى تباين مواقف الأحزاب الدينية، فقد جاهر حزب يهدوت هتوراة بمعارضته، في حين آزره حزب شاس، متذرعاً بأن هذه الميزانية ستُوظّف لـ"احتياجات حيوية كشراء الذخيرة وصرف رواتب جنود الاحتياط".
سياسة نقدية انكماشية في أتون الحرب
في غضون ذلك، أبقى البنك المركزي الإسرائيلي سعر الفائدة عند 4.5 بالمئة للجلسة الرابعة عشرة على التوالي، ووفقاً لرويترز، أكد البنك أنه رغم انحسار التضخم إلى 2.9 بالمئة في أغسطس من 3.1 بالمئة في يوليو، إلا أنه لا يستعجل تخفيف قبضة السياسة النقدية.
ويضيف التقرير أن الاقتصاد انكمش بنسبة 4 بالمئة في الربع الثاني من عام 2025 مقارنةً بالعام السابق، ما يجسّد الضغوط المتواصلة الناجمة عن أتون الحرب المستعرة.
ومن بين 12 محللاً استطلعت رويترز آراءهم، توقّع 9 منهم بقاء سعر الفائدة دون تغيير، بينما رجّح ثلاثة خفضاً بمقدار 25 نقطة أساس، ومع ذلك، دفعت حالة عدم اليقين الاقتصادي البنك المركزي إلى إرجاء أي تعديل.
وفي السياق ذاته، وفقاً لصحيفة يديعوت أحرونوت، حذّر خبراء اقتصاديون إسرائيليون من أن وكالة التصنيف الائتماني العالمية (موديز) ستخفض على الأرجح التصنيف الاقتصادي للكيان قريباً، في خضم النفقات الدفاعية الهائلة والمخاوف المتنامية بشأن القدرة على ضبط زمام الميزانية العامة.
وذكرت يديعوت أحرونوت أن الأزمة التجارية تنطوي على مخاطر مالية جسيمة، حيث زار وفد رفيع المستوى من خبراء وكالة التصنيف الائتماني (موديز) الكيان الصهيوني الأسبوع الماضي، والتقى بممثلي الحكومة واقتصاديين بارزين.
وأفادت مصادر شهدت تلك الاجتماعات بأن ممثلي الوكالة أعربوا عن مخاوف عميقة بشأن مستوى النفقات الدفاعية المتصاعدة بعد “احتلال مدينة غزة”، وحذروا من أن عجز الميزانية قد ينفلت من عقاله ويفضي إلى تراكم ديون هائلة.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول رفيع المستوى التقى بوفد موديز قوله: “إذا لم يُخفض التصنيف الائتماني لإسرائيل في الأسبوعين المقبلين، فسيكون ذلك بمثابة معجزة من معجزات الدهر”.
وأردفت الصحيفة قائلةً إنه إذا تحققت التوقعات بخفض التصنيف الائتماني لموديز، فقد تتجاوز تداعياته الأضرار التجارية المباشرة لتطال المكانة المالية لـ "إسرائيل" على الساحة الدولية برمتها.
إلغاء الصفقات.. قطاع الصادرات يترنّح تحت وطأة العزلة الدولية
بالإضافة إلى تصاعد نفقات الحرب، ثمة عامل آخر يعصف باقتصاد الكيان وهو حملات المقاطعة الشعبية للمنتجات الإسرائيلية، ما أفضى إلى انحسار صادرات الكيان بصورة دراماتيكية.
يقر الصناعيون الإسرائيليون بأن العلاقات التجارية، حتى مع الدول التي لطالما عُدّت من أقرب حلفاء هذا الكيان، قد انحدرت إلى دركٍ لم تبلغه من قبل، ونتيجةً لذلك، شهدت المصانع الإسرائيلية تراجعاً حاداً في المعاملات التجارية، وعمدت الشركات وسلاسل التسويق خارج الكيان إلى وقف استيراد المنتجات الإسرائيلية.
ويُروى أن حتى الشركات التي تواصل نسج خيوط التجارة مع الصهاينة باتت تشترط عقد اجتماعات تجارية في طي الكتمان، مع التشديد على عدم تسريب أي صور أو محاضر لهذه اللقاءات.
وفي هذا المضمار، كشف رونين تومر، رئيس اتحاد المصنعين الإسرائيلي، مؤخراً في مقابلة عن واقعة مذهلة جرت خلال زيارة وفد اقتصادي إسرائيلي لدولة وصفها بأنها “صديقة حميمة”، فبعد ساعات معدودة من انفضاض الاجتماع، تلقى المشاركون رسالةً عبر تطبيق واتساب تطلب منهم محو صور الاجتماع والامتناع عن الإفصاح عن لقائهم مع ممثلي الشركات الإسرائيلية.
يقول تومر بلهجة يشوبها الأسى: “لقد صُعقنا، ففي غابر الأيام، كانوا يستقبلوننا بحفاوة بالغة هناك ونبرم صفقات مجزية، لكن الأحوال تبدلت الآن تبدلاً جذرياً”.
ويؤكد المصدرون والمستوردون الصهاينة أنهم شهدوا في الأسابيع القليلة المنصرمة موجةً غير مسبوقة من إلغاء العقود السارية أو النكول عن تجديدها، وفي بعض الحالات، أعلنت شركات وسلاسل تسويق في بلدان شتى وقف استيراد المنتجات الإسرائيلية، ما يعكس رد فعل صارم للسخط العالمي والضغوط الدولية ضد استمرار آلة الحرب في غزة.
وتشير الصحيفة إلى أن بعض طلبات تجديد عقود تصدير البضائع الإسرائيلية قوبلت بالرفض القاطع، في حين أبلغت شركات في أوروبا وأمريكا عن قطع مفاجئ للتعاملات مع منتجي هذا الكيان.
ووفقاً للمسؤولين الاقتصاديين الصهاينة، تفاقم الوضع على نحو خاص منذ أن أعلن الكيان خطة احتلال غزة ونشر مقاطع فيديو لقصف المباني والمساجد وسقوط المدنيين صرعى.
ونقلت الصحيفة عن أحد الصناعيين قوله بنبرة يائسة: “لم نعد قادرين على مواجهة هذه المشاهد المروعة. لقد حُكم علينا بالعزلة التامة، نشعر بأننا أصبحنا منبوذين في أرجاء المعمورة”.
ونشرت صحيفة يديعوت أحرونوت النتائج الأولية لاستطلاع أجراه اتحاد الصناعيين الإسرائيليين في 17 و18 سبتمبر، شمل 132 من أقطاب الصناعة، والذي يرسم صورةً قاتمةً لأوضاع الشركات الصهيونية؛ فوفقاً لهذا الاستطلاع:
أفاد قرابة نصف المصدرين بإلغاء أو عدم تجديد العقود القائمة، وعُزي 71 بالمئة من عمليات الإلغاء هذه إلى دوافع سياسية مرتبطة بالحرب.
تصدر الاتحاد الأوروبي قائمة إلغاء العقود، حيث أفاد 84 بالمئة من المصنعين بأن دول الاتحاد نقضت عهودها.
واجه ما يناهز 38% من المصدرين إلغاء عقود من دول أوروبية أخرى، و31% من الولايات المتحدة.
أقرّ نحو 76% بأن الحرب ألحقت ضرراً بالغاً بصادراتهم، وصرح 21% منهم بأن هذا الضرر تجاوز 40% من إجمالي صادراتهم.
أشار نحو 54% إلى أن العملاء الجدد عزفوا عن التعاون مع "إسرائيل".
جابه نحو 49% معوقات لوجستية وتنظيمية غير مسبوقة، بما في ذلك عراقيل النقل والتأخير في الجمارك والموانئ.
واجه نحو 22% من المستوردين الإسرائيليين إلغاء طلبيات من الموردين الأجانب.
كما حذرت الصحيفة من أن الأزمة الراهنة لا تقتصر على الأضرار التجارية المباشرة، بل تمتد آثارها لتشمل تداعيات أوسع نطاقاً قد تعصف باستقرار الاقتصاد الإسرائيلي برمته؛ فانحسار الصادرات والعزلة المتنامية عن الأسواق الدولية، إلى جانب تضخم النفقات العسكرية وتفاقم عجز الميزانية، يشكّل تهديداً خطيراً للثقة الدولية في اقتصاد الكيان، ويقوّض قدرته على اجتذاب الاستثمارات.
وفي خضم هذا المشهد القاتم، يرى المراقبون أن الكيان الصهيوني يواجه تحدياً مزدوجاً: داخلياً، يتمثل في إدارة اقتصاد متداعٍ تحت وطأة الحرب، وخارجياً، يتجلى في مجابهة عزلة متعاظمة عن الأسواق والدول التي طالما شكّلت شريان الحياة لصادرات هذا الكيان.
الحرب تقلب موازين الاقتصاد الإسرائيلي رأساً على عقب
لئن اشتهر اقتصاد الكيان تاريخياً بالمرونة في امتصاص الصدمات بفضل اعتماده على قطاعات التكنولوجيا المتطورة، والبنية التحتية المالية الراسخة، والدعم الخارجي السخي من الولايات المتحدة، فإن استطالة أمد الحرب وامتدادها أفقياً (بجبهات مشتعلة في إيران ولبنان) وعمودياً (باستدعاء قوات الاحتياط المتواتر، وغياب الأيدي العاملة الفلسطينية، واشتعال نيران الاضطرابات الداخلية)، قد عقَّد مشهد الأزمة الاقتصادية تعقيداً بالغاً.
لم تعد هذه المعادلة الشائكة تقتصر على التكلفة المباشرة للحرب المستعرة على الميزانية أو النمو الاقتصادي، بل تشمل أيضاً تأثيرات هيكلية عميقة على بنية الإنتاج، وتآكل الثقة المطرد بين المستثمرين المحليين والأجانب، وتأجج التوترات الاجتماعية الداخلية، ما قلص بدوره من هامش مناورة الحكومة إلى أدنى مستوياته.
إن فاتورة الحرب، التي تُقدر بما يتراوح بين 60 و120 مليار دولار حتى منتصف عام 2025، لا تشمل فقط النفقات الدفاعية المباشرة، بل تمتد لتشمل أيضاً الخسائر الفادحة في قطاعات حيوية كالسياحة والبناء والزراعة، فضلاً عن انحسار الإيرادات الضريبية بسبب إغلاق عشرات الآلاف من المنشآت الصغيرة والمتوسطة. يضاف إلى ذلك انخفاض حاد في حركة المسافرين، بنسبة تتراوح بين 34% و43% مقارنةً بالعام السابق، ما يشير إلى انهيار قطاع السياحة الذي كان يمثّل مصدراً رئيسياً للعملة الأجنبية.
خصصت الحكومة الصهيونية 107 مليارات شيكل (قرابة 29 مليار دولار) للميزانية الدفاعية لعام 2025، بزيادة هائلة قدرها 65% مقارنةً بمستويات ما قبل اشتعال فتيل الحرب، وأقرت خطةً لزيادة سنوية تبلغ نحو 20 مليار شيكل في النفقات الدفاعية على مدى العقد المقبل، يعكس هذا التوجه الخطير إدماج “الاقتصاد العسكري” بصورة كاملة في الهيكل المالي للحكومة على حساب القطاعات غير العسكرية، ويشير إلى أن تكلفة الحرب لن تظل إجراءً مؤقتاً، بل ستتحول إلى عبء هيكلي مستدام يرهق كاهل الاقتصاد لسنوات طويلة قادمة.