الوقت- مثّل اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير في نيويورك، مسرحاً جديداً تجلت فيه الروايات المتباينة وتصادمت حول مأساة فلسطين والحرب الضروس المستعرة على غزة، فالقضية الفلسطينية، التي تأرجحت بين هامش الاهتمام ومحوره في السنوات المنصرمة بفعل الاشتباكات المتوالية والضغوط الدولية، استحالت هذا العام بؤرةً محوريةً في الدبلوماسية العالمية نظراً لفداحة النكبات الإنسانية في غزة، وتبدل مواقف عدة دول غربية ذات شأن.
في خضم هذا المشهد المتحرك، سعت تركيا، مدّعيةً دوراً محورياً في المفاوضات واللقاءات المتعلقة بفلسطين، إلى تنصيب نفسها رائدةً في الذود عن هذا الملف، ويمكن اعتبار تصريحات وزير خارجيتها هاكان فيدان بأن الوفد التركي اضطلع بزمام القيادة أو التنسيق أو الدعم لجميع المحافل المتصلة بالقضية الفلسطينية على هامش الجمعية العامة، جزءاً من مساعيها الحثيثة لإبراز مكانة أنقرة كمدافع عن فلسطين وقضيتها العادلة.
أشار وزير الخارجية التركي إلى أن الرئيس أردوغان أفرد الجزء الأوفر من خطابه في الجمعية العامة للقضية الفلسطينية والإبادة الجماعية في غزة، وأنه كان وراء فكرة عقد جلسة حول غزة ضمّت قادة ثمانية بلدان من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، إلى جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
تأتي هذه التصريحات في وقتٍ شهد فيه أحد أبرز المحافل الدولية لدعم إقامة دولة فلسطينية وفق حل الدولتين، تعاوناً بين فرنسا والمملكة العربية السعودية، واكتسب هذا الاجتماع أهميةً مضاعفةً بعد إعلان عشر دول غربية (من بينها فرنسا وبريطانيا العضوان الدائمان في مجلس الأمن) اعترافها الرسمي بفلسطين. وقد أفضى هذا التزامن إلى إبراز تنافس دبلوماسي بين تركيا والسعودية - المتنافستين التقليديتين في العالم الإسلامي - ما يثير السؤال الجوهري: هل تسهم هذه المناوشات في تخليص الفلسطينيين من محنتهم الراهنة، أم إنها مجرد حلقة في مسلسل لعبة القوة بين دول المنطقة؟
الخلفية التاريخية للتنافس التركي السعودي على زعامة العالم الإسلامي
شهدت العلاقات التركية السعودية تقلبات جمة خلال العقدين المنصرمين، ففي العقد الأول من الألفية، سعى البلدان لتوسيع عمقهما الاستراتيجي ضمن تنافس أيديولوجي في قضايا العالم الإسلامي المتنوعة.
فتركيا، في إطار سياسة “العثمانية الجديدة” لحزب العدالة والتنمية، اجتهدت في استثمار قدراتها الاقتصادية والدبلوماسية لتتبوأ مكانة اللاعب المؤثر في المنطقة، واستطاع أردوغان، بمواقفه الصارمة ضد "إسرائيل" وخاصةً في أعقاب حادثة سفينة “مافي مرمرة” (2010)، أن يستحيل بطلاً تهتف باسمه الشوارع العربية والإسلامية.
في المقابل، اتكأت السعودية، بوصفها قوةً تقليديةً ذات نفوذ ضارب في العالم الإسلامي، على دورها كـ"خادم الحرمين" وقوتها الاقتصادية والمالية الطاغية. وبلغت الخلافات بين البلدين أوجها بعد تحولات “الربيع العربي” وأزمة مصر، حيث ناصرت تركيا حكومة الإخوان المسلمين ومحمد مرسي، بينما آزرت السعودية انقلاب الجنرال السيسي. وأفضت هذه التناقضات إلى تنافس أيديولوجي وجيوسياسي محموم بين البلدين.
وكانت القضية الفلسطينية على الدوام جزءاً لا يتجزأ من هذا التنافس المحتدم. فالسعودية طرحت في الأعوام السالفة مبادرة السلام العربية (2002)، وقدّمت نفسها دوماً كداعمة لحل “الدولتين”. أما تركيا، فانتهجت سياسات أكثر تأييداً لفلسطين ومواقف أشدّ حدةً ضد "إسرائيل"، ساعيةً لإبراز نفسها في الرأي العام الإسلامي وكسب ولائه.
ومنذ عام 2021، سلكت تركيا والسعودية مسار تخفيف التوتر في علاقاتهما، بعد فترة عصيبة مضطربة بين عامي 2017 و2020.
وشهدت السياسات الإقليمية للبلدين بعض التقارب الملحوظ، فبعد إسقاط نظام الأسد في سوريا، بدا أن تركيا والسعودية اتخذتا مواقف داعمة للحكومة الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام والجولاني، وبشكل عام، اتسمت سياستهما الإقليمية بتناغمهما مع الولايات المتحدة الأمريكية.
غير أنه رغم مسار تخفيف التوتر العام في العلاقات التركية السعودية، ظل عنصر المنافسة قائماً في العلاقات الثنائية، ومع تطلع كلا البلدين للزعامة الإقليمية، بقيت إمكانية تصادم مصالحهما واردةً بقوة. وتمثّل القضية الفلسطينية أحد أبرز هذه الملفات المتنازع عليها.
فالسياسة الخارجية التركية تركز على مناطق النفوذ التقليدية الخاضعة للهيمنة السعودية مثل فلسطين، حيث تسعى أنقرة لدور واسع في مسارات التطورات السياسية والدبلوماسية لهذا الملف الشائك.
وفي حين تبدي تركيا دعمها لمبادرات جامعة الدول العربية بقيادة السعودية لحل الدولتين، فإنها تواصل في الوقت نفسه السير على درب أولوياتها السياسية الخاصة، فقد روّجت تركيا باستمرار لصيغة وصاية في غزة، بمعنى أن بعضاً من دول المنطقة يمكنها ضمان أمن ورفاهية الفلسطينيين مقابل ضمانات مماثلة تقدّم لـ "إسرائيل" تحت إشراف أمريكي. وقد أخفقت تركيا في حشد التأييد لهذه المبادرة، خاصةً من السعودية وشركاء الخليج الفارسي الآخرين، لأنها كانت ستضع تركيا في قلب تطورات غزة وبالتالي ترسّخ نفسها في قضية عربية محورية، كما واصلت تركيا، رغم بعض تعديل مقارباتها تجاه الإخوان إقليمياً، علاقاتها مع حماس، وهو ما يتعارض جلياً مع المنظور السياسي السعودي المفضّل في فلسطين.
دوافع تركيا
يُطرح السؤال التالي بإلحاح: لماذا تشدّد تركيا على دورها في ملف فلسطين بالأمم المتحدة؟
الهيبة الداخلية: يواجه أردوغان وحزب العدالة والتنمية أزمةً اقتصاديةً خانقةً وضغوطاً داخليةً متصاعدةً. وقد كان “الذود عن حياض فلسطين” دوماً أداةً ناجعةً لاستمالة الرأي العام في تركيا والعالم الإسلامي، المتأجّج غضباً من صمت وتقاعس الحكومات العربية والإسلامية إزاء جرائم الكيان الصهيوني الغاشم.
المنافسة الإقليمية: لا ترغب تركيا في ترك ساحة فلسطين للسعودية أو غيرها من المتنافسين، وتؤمن أنقرة إيماناً راسخاً بأنها فقط بالنشاط الدؤوب في هذا الملف الحيوي يمكنها تتويج نفسها زعيمةً للعالم الإسلامي.
الموازنة مع الغرب: رغم اعتراء العلاقات التركية مع أمريكا وأوروبا شيء من التوتر، تدرك أنقرة أن الدفاع عن فلسطين، وخاصةً في أروقة الأمم المتحدة، يمكن أن يصوغ لها صورةً دوليةً مشرقةً، بل استخدام ورقة فلسطين كرافعة للمساومة في علاقاتها المتشابكة مع أمريكا.
فعلى سبيل المثال، رغم جلاء دور البيت الأبيض في إطالة أمد حرب غزة ووصول المساعي الدولية كمجلس الأمن لطريق مسدود في وقف رحى الحرب، تحدث فيدان في نيويورك عن ضرورة اضطلاع أمريكا بدور محوري لدفع عملية السلام في فلسطين وغزة، وأكد قائلا: “من الأهمية بمكان لنا أن تضطلع أمريكا بدور محوري في كل هذه القضايا، وأن تمارس نفوذها على "إسرائيل"، ولإيصال الولايات المتحدة إلى هذه الغاية المنشودة، كان لا مناص من حساب إجراءات واستراتيجيات ومراحل العلاقات الدبلوماسية بدقة متناهيةً وتنفيذها واحدةً تلو الأخرى".
دوافع السعودية
في المقابل، للمملكة العربية السعودية أيضاً دوافعها الخاصة الضاربة في العمق:
تحتاج الرياض احتياجاً ملحاً، بعد تجربة إخفاق مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني بسبب حرب غزة المستعرة، لإظهار أنها ما زالت تقف إلى جانب الفلسطينيين. فكانت إدارة اجتماع الأمم المتحدة فرصةً سانحةً لترميم صورة السعودية المتصدّعة في مرآة الرأي العام العربي. ويذهب بعض المحللين إلى أن عقد اجتماع الدولتين، كان في حقيقة الأمر خطوةً محسوبًة نحو تهيئة الأرضية الخصبة لتنفيذ مشروع التطبيع في المستقبل المنظور، بحيث لا يُفسر اتفاق محتمل كهذا على أنه خيانة عظمى لفلسطين، بل كحلقة في سلسلة مسار حل الدولتين المحظي بالدعم الفلسطيني والعربي على حد سواء.
هل أثمر التنافس في مصلحة فلسطين؟
السؤال المحوري الذي يفرض نفسه بقوة: هل يُحسِّن هذا التنافس الدبلوماسي المحموم أحوال أهل غزة وفلسطين الجريحة، أم أنه مجرد فصل من فصول اللعبة السياسية للقوى الإقليمية المتصارعة؟ تكشف تجربة العامين المنصرمين من حرب غزة الضروس، أن المساعي الدبلوماسية لهذه الدول في محافل كجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، التي كان يمكن أن تقترن بإجراءات عملية يجمع عليها المسلمون قاطبةً، لم تؤت أكلها ولم تثمر ثماراً يانعةً، بل ظلت حبيسة الشعارات الرنانة والخطب الطنانة، كما يؤكد ذلك النتيجة المخيّبة للآمال لاجتماع الدوحة الطارئ لبحث عدوان الكيان الصهيوني الغاشم على دولة عربية في الخليج الفارسي.
لذا، ورغم استحالة إنكار قيمة طرح قضية فلسطين بقوة على مسرح دبلوماسية الأمم المتحدة، فالحقيقة الساطعة أنه طالما طغت على هذه المنافسات الصبغة الدعائية والاعتبارية بدل التعاون العملي الجاد لإنهاء حصار غزة الخانق ووقف المجازر المروعة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، سيظل الشعب الفلسطيني المكلوم مجرد متفرج على مسرحية لعبة القوى المتصارعة، فإن كانت الدول الإسلامية والعربية تنشد حقاً تبديل الأحوال وتغيير المآل، فحري بها أن تتجاوز ميدان المنافسة الرمزية العقيمة وتتّجه نحو الخطوات العملية الناجعة، كممارسة الضغط العسكري والاقتصادي المجدي على الكيان الصهيوني.