الوقت - اعتلى السيد عباس عراقجي وزير الشؤون الخارجية بالجمهورية الإسلامية الإيرانية منصة الخطابة يوم الـ 26 من أغسطس 2025، خلال المجلس الاستثنائي لوزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي المنعقد بمدينة جدة.
وألقى وزير الخارجية الإيراني الضوء على الوضع المروع لأهالي غزة، مؤكداً أن ما يجري على أرض هذه البقعة المنكوبة، إنما هو استئصال مدروس لشعبٍ يرزح تحت نير الحصار على يد کيانٍ عنصري بغيض، وأعلن بوضوح أن إزهاق أرواح المدنيين الأبرياء وتقويض صروح العمران وتجويع الأطفال، يُجسّد جريمةً تتخطى حدود الحرب التقليدية وتحمل في طياتها بصمات الإبادة الجماعية.
وأردف عراقجي أن مقترفي هذه الفظائع يجاهرون بمخططاتهم لإحكام القبضة العسكرية الشاملة على غزة والتضييق عليها وتهجير أهلها، وكل ذلك يُغلف بغلاف “الأمن” المزعوم، بينما هو في حقيقة الأمر سعي محموم للتطهير العرقي، وشدّد وزير الخارجية الإيراني، مستشهداً بالمواثيق الدولية واتفاقية جنيف الرابعة، على أن هذه الأعمال الشنيعة ترقى إلى مصاف جرائم الحرب والإبادة الجماعية.
وناشد العالم الإسلامي نفض غبار الصمت والمبادرة باتخاذ خطوات عملية، كفرض العقوبات والمقاطعة والضغط الدولي، لمحاسبة المتورطين في هذه الجرائم وقطع العلاقات مع الكيان المحتل، نصرةً لأهل غزة الصامدين، كما أشار وزير الخارجية الإيراني إلى تواطؤ بعض الدول في مدّ يد العون لهذا الکيان الغاشم، وأكد على ضرورة التصدي لهذا النهج المشين.
وفي خاتمة المطاف، وصف عراقجي غزة بأنها منارة للصمود وأيقونة للكرامة الإنسانية، وحثّ الدول الإسلامية والمجتمع الدولي على إعلاء راية العدالة والإنسانية فوق اعتبارات السياسة ومخاوف الرهبة من خلال اتخاذ مواقف حازمة ومدّ يد العون الحقيقي، وأكد بعبارات قاطعة أن ساعة العمل قد دقت، وأن غزة لم تعد تطيق مرارة الانتظار.
وفيما يلي نص الخطاب بأكمله:
بسم الله الرحمن الرحيم
نلتئم اليوم في لحظة تاريخية فارقة تقف فيها غزة كمرآة صادمة أمام ضميرنا الجماعي، ما يتجلى أمام أبصارنا هو فناء منظم لشعبٍ محاصر على يد نظام فصل عنصري متجبر، يعيث في الأرض فساداً بحصانة تامة.
يُستأصل أهل غزة استئصالاً ممنهجاً، وقد طُمست معالم المناطق السكنية بالكامل؛ واستحالت المستشفيات إلى مقابر؛ ويكابد الأطفال الأبرياء ويلات المجاعة وسياط الجوع القارس في انتهاكٍ صارخ لكل قيمة إنسانية، ليست هذه حرباً اعتياديةً بل هي عقاب جماعي، وسياسة للهيمنة، ونعم، هجمة شرسة تحمل في جنباتها كل أمارات الإبادة الجماعية.
يتبجّح مرتكبو هذه الجرائم النكراء علناً بمخططاتهم لفرض هيمنة عسكرية شاملة ودائمة على غزة، يتشدّقون بالحديث عن حصار جديد، ومناطق عازلة جديدة، وعمليات تهجير جديدة ويسمونها زوراً وبهتاناً “أمناً”، بيد أننا نعلم اسمها الحقيقي: “تطهير عرقي”، مسعى دؤوب لتمزيق أوصال شعبٍ حتى لا يبقى له سوى خيارين أحلاهما مر: الفناء أو المنفى.
القانون الدولي جلي لا غبار عليه، التجويع المتعمد والقصف العشوائي مدرجان في خانة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفي الوقت ذاته، تحظر اتفاقية جنيف الرابعة استهداف المدنيين وتدمير المساكن والتهجير القسري للسكان، هذا فرض متعمد لظروفٍ صُممت لاجتثاث شعبٍ بأكمله، وليس لها سوى مسمى واحد: الإبادة الجماعية، فأي برهان إضافي نبتغي؟
سيسائلنا التاريخ غداً: حينما كانت غزة تئنّ تحت وطأة الخناق، هل صدح العالم الإسلامي بصوت واحد؟ هل بادرنا بالفعل، أم لُذنا بالانتظار ليتحرك الآخرون ويقرروا نيابةً عنا؟ إن الإدانات الجوفاء المجردة من الأفعال الملموسة، ليست سوى صيحةٍ في واد.
لإرساء دعائم السلام وضمان الانسحاب الشامل لقوات الاحتلال من كل ذرة تراب في غزة، يتحتم علينا أن نعقد العزم على:
• استنفار جميع الأدوات السياسية والاقتصادية والقانونية، من عقوبات ومقاطعة وضغط دولي منسق.
• مواصلة مساعي المساءلة على كافة الأصعدة، في شتى المحافل القضائية، ضد كل من تلطخت يداه بجرائم الحرب والإبادة الجماعية في فلسطين أو أسهم في تمكينها.
• قطع أواصر العلاقات فوراً مع سفاكي دماء إخواننا وأخواتنا في غزة، أولئك الذين يداعبون اليوم أحلام “إسرائيل الكبرى” السخيفة، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المداهنة في الماضي لم تجن ثماراً ولن تؤتي أكلها في المستقبل.
يتعين علينا أيضاً مجابهة تواطؤ الدول التي تمدّ الكيان المحتل بأسباب القوة، وتدرأ عنه سهام الإدانة الدولية وتجهض العدالة بسلاح الفيتو، إنهم بمنأى سحيق عن الحياد، رغم أن الحياد في مواجهة الجريمة ليس حياداً في حقيقة الأمر، بل هو تواطؤ صريح.
غزة أسمى من مجرد بقعةٍ تعاني، غزة شاهد حي وأيقونة للمقاومة وتذكرة بأن الكرامة الإنسانية أعزّ من أن تذروها الرياح رماداً بفعل القنابل، أهالي غزة يترقبون عوننا الجاد، وصمودهم الأسطوري يستنهض هممنا للوقوف في صفهم لا بالأقوال المنمقة فحسب، بل بالأفعال الحاسمة.
لقد غرس فينا النبي المصطفى (ص) أن الأمة الإسلامية كالجوهر النفيس والجسد الواحد، واليوم هذا الجسد ينزف ألماً ويتخضب بالدماء في ربوع غزة، إن الصمت جرح نكأناه بأيدينا، والعمل الجريء هو بلسم الشفاء.
أرجو صادقاً أن يخلّد هذا الاجتماع في سجلات التاريخ كتجمع يتجاوز حدود الخطب الرنانة والوعود البراقة، ليكن هذا اليوم منعطفاً تحول فيه العالم الإسلامي من متفرجٍ سلبي إلى إرادة صلبة، ومن صمتٍ مطبق إلى قيادة فذة، يوماً آثرنا فيه العدالة على الخوف، والوحدة على الريبة، والإنسانية على حسابات السياسة.
ولنتذكر دوماً أن مأساة غزة ليست قضيةً تخصّ المسلمين وحدهم، إنها محك للضمير العالمي، ولذا، نهيب بجميع الأمم والشعوب، بغض النظر عن معتقداتها أو مواقعها الجغرافية، أن تقف في صف الإنسانية والعدالة والكرامة؛ أي في الجانب المشرق من صفحات التاريخ.
لن يغضّ التاريخ الطرف عن التلكؤ والتأخير، وغزة لم تعد تحتمل عناء الانتظار، فساعة العمل قد دقت.