الوقت- يشهد الجيش الإسرائيلي أزمة نفسية غير مسبوقة بين جنوده، في ظل استمرار الحرب على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، تشير التقارير الإعلامية والبيانات الرسمية إلى أن آلاف الجنود يعانون من اضطرابات نفسية حادة تشمل القلق، الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، ما أدى إلى ارتفاع مقلق في معدلات الانتحار وتراجع ملحوظ في الروح المعنوية والاستعداد القتالي.
حسب صحيفة يديعوت أحرونوت (27 يوليو 2025)، يخضع أكثر من 10,000 جندي إسرائيلي لعلاج نفسي نشط نتيجة تداعيات الحرب على غزة. نحو 3,600 جندي منهم تم تشخيصهم رسميًا باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، فيما تقدم حوالي 9,000 جندي بطلبات رسمية للاعتراف بإصابتهم النفسية كمدنيين مستحقين للعلاج والتعويض، وتتوقع وزارة الدفاع أن يصل عدد الجنود الذين سيحتاجون علاجًا نفسيًا خلال العامين المقبلين إلى 100,000، ما يعادل نحو ثلث قوات الاحتياط، كما أظهرت دراسة مستقلة لجامعة تل أبيب أن واحدًا من كل ثمانية جنود احتياط ممن شاركوا في العمليات داخل غزة يعاني من أعراض نفسية حادة تمنعه من العودة للخدمة.
عام 2024 سجل أعلى عدد من حالات الانتحار بين الجنود منذ أكثر من عقد، حيث وثقت 21 حالة مؤكدة، نصفها من قوات الاحتياط، مع توقعات أن الأرقام الفعلية قد تكون أعلى بسبب غياب الشفافية في رصد الحالات غير المعلنة، وفي يوليو 2025، شهد الجيش أربع حالات انتحار في غضون أسبوعين فقط، ما أثار حالة من القلق داخل الأوساط العسكرية والسياسية، وتساؤلات حول مدى فاعلية القيادة في احتواء الأزمة النفسية المتفاقمة.
تتميز الحرب على غزة بطبيعتها الحضرية والدامية، حيث خاض الجنود مواجهات في مناطق مكتظة بالسكان المدنيين، وشهدوا سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بينهم أطفال، وهو ما يشكل صدمة نفسية عميقة، وخصوصًا لدى الجنود ذوي الخبرة القليلة أو الخلفيات الاجتماعية الهشة، تراكمت هذه الضغوط النفسية نتيجة الفترات الطويلة في الميدان دون فترات راحة أو دعم نفسي كافٍ، وسط نقص في منظومة دعم نفسي مهنية وشاملة في بداية الحرب.
ورغم الجهود اللاحقة للقيادة العسكرية التي شملت تعيين ضباط صحة نفسية وإنشاء خطوط طوارئ، فإن ذلك لم يكن كافيًا لمعالجة الصدمة على نحو فعال، بل إن ثقافة الجيش الإسرائيلي ذاتها، التي تعتبر التعبير عن الألم النفسي ضعفًا، حالت دون تشجيع الجنود على طلب المساعدة. ووفقًا لتقارير "تايمز أوف إسرائيل"، فإن كثيرًا من الجنود الذين طلبوا دعمًا نفسيًا تعرضوا لتحقير من قادتهم، ما دفع البعض إلى إخفاء معاناتهم.
انعكاسات الأزمة النفسية تجاوزت الأفراد لتطال الجاهزية القتالية للجيش، حيث انخفضت نسبة الاستجابة لاستدعاءات الاحتياط من 90% في بداية الحرب إلى أقل من 70% مؤخرًا، سجل الجيش تغيّبات متكررة وطلبات إعفاء نفسي متزايدة، وسط تقارير عن عودة جنود مصابين بصدمة حادة لا تسمح لهم بالاندماج في حياتهم اليومية أو أسرهم.
غير أن هذه الأزمة النفسية لا يمكن فهمها بمعزل عن طبيعة الحرب نفسها التي ينفذها الجيش الإسرائيلي، والتي ترتبط بسياسات احتلال وحشية تشمل القتل الجماعي والتدمير الممنهج لمناطق سكنية في غزة، إن الصدمة التي يعانيها الجنود ليست مجرّد نتيجة للقتال، بل تعبيراً عن واقع جيش ينفذ جرائم حرب تحت غطاء سياسي عميق يفتقد البوصلة الأخلاقية، هذه الحالة النفسية ليست ضعفًا فرديًا، بل نتاج منظومة عسكرية وثقافية تولّد جنديًا محطمًا نفسيًا، مشوهًا، معرضًا للانفجار الذاتي.
وبينما يشير ارتفاع حالات الانتحار والانهيار العصبي إلى هشاشة ما يُسمى "الجيش الأقوى في الشرق الأوسط"، فإن استمرار هذه الحرب يهدد بتفكك داخلي أعمق على الصعيدين العسكري والاجتماعي، هذه الأزمة النفسية تكشف هشاشة الكيان الإسرائيلي، الذي قد ينهار ليس بفعل القذائف المقاومة فحسب، بل بفعل الصراعات النفسية والاجتماعية المتفاقمة داخله.
وبالتالي، فإن التعامل مع هذه الأزمة لا يقتصر على إنشاء مراكز علاج أو خطوط دعم، بل يتطلب إدانة واضحة لمسؤولية المؤسسة العسكرية والسياسية في صناعة هذه الأزمة، المجتمع الذي يغذي الكراهية، ويوظف شبابه في تنفيذ حرب ظالمة ضد المدنيين، يجب أن يتحمل ثمن ذلك على الصعيد النفسي والاجتماعي، وليس من العدل تقديم التعاطف فقط مع معاناة الجنود، بل يجب محاسبة القائمين على هذه السياسات التي تدفع بهم إلى الانهيار.
إن هذه الأزمة النفسية تعكس فشلًا أخلاقيًا عميقًا داخل مؤسسات الاحتلال، الذي لا يوفر الحماية لجنوده بل يُحمّلهم تبعات جرائمه، في وقت يُستثمر فيه في صناعة جندي محطم، لا يستطيع العودة إلى حياة طبيعية، والنتيجة ليست فقط أزمة فردية، بل تفكك اجتماعي شامل يهدد النسيج الداخلي للكيان الإسرائيلي.