الوقت- في مشهد سياسي غير معتاد، صوّت ممثلو التيارات الحريدية في الكنيست الإسرائيلي لمصلحة مشروع قرار حل البرلمان، في خطوة تعكس حجم التوتر والانقسام داخل الائتلاف الحاكم بقيادة بنيامين نتنياهو، جاء هذا التصعيد على خلفية الفشل في التوصّل إلى اتفاق بشأن "قانون التجنيد"، وهو القانون الذي لطالما شكّل عقدة تاريخية في العلاقة بين الدولة الصهيونية والتيارات الدينية المتشددة.
ووفقاً للمداولات الأخيرة، رفضت الأحزاب الحريدية القبول بصيغة تقضي بفرض عقوبات مباشرة على المتخلفين عن الخدمة العسكرية، وبدلاً من ذلك، طالبوا بتأجيل أي إجراء عقابي لستة أشهر على الأقل، وهي فترة اعتبروها ضرورية لترتيب أوضاع المعاهد الدينية (اليشيفوت) التي تضم آلاف الشبان الحريديم.
نتنياهو في مأزق: صراع بين الولاء الديني والحسابات السياسية
وجد رئيس الحكومة نفسه محاصراً من جميع الجهات، فمن جهة، يضغط عليه الشركاء الحريديم لتمرير قانون يضمن إعفاءً فعلياً من التجنيد، وهو ما يثير حفيظة الشارع العلماني والقيادات الأمنية، ومن جهة أخرى، فإن أي خضوع مطلق لمطالب الحريديم قد يؤدي إلى انفراط عقد التحالفات داخل الكنيست، وربما انهيار الحكومة نفسها.
وقد اتسمت جلسة الكنيست الأخيرة بمناورات تشريعية كثيفة، حيث سعى نتنياهو لعرض عشرات مشاريع القوانين دفعة واحدة، بهدف تعطيل مسار التصويت على حل البرلمان، وتمديد عمر الحكومة قدر الإمكان، غير أن موقف الحريديم كان حاسماً، وهو ما وجّه صفعة قوية له.
الانقسام داخل التيار الحريدي: مناورات داخلية وفتاوى متضاربة
ما يزيد المشهد تعقيداً هو الانقسام داخل الفصائل الحريدية نفسها، فبينما أبدت جهات مثل "أغودات يسرائيل" و"ديغل هتوراه" دعماً لحل الكنيست، باعتباره وسيلة ضغط مشروعة، عبّرت جهات أخرى مثل "بلز" و"سانز" عن تفضيلها لاستمرار الحكومة، يعود هذا التباين إلى مزيج من الحسابات السياسية، والولاءات الدينية، ووجهات النظر المختلفة حول كيفية التعامل مع الخدمة العسكرية التي يعتبرونها من المحرّمات.
ورغم التباين، فإن قرارهم الجماعي بالتصويت لحل الكنيست أرسل رسالة واضحة: إذا لم تلبِّ الدولة مطالبهم في قانون التجنيد، فلن يترددوا في خوض الانتخابات مجدداً، أو حتى الإطاحة بالحكومة.
معركة الهوية: التجنيد كواجهة لصراع أعمق
ليست أزمة التجنيد سوى تجلٍّ لصراع أعمق في المجتمع الإسرائيلي بين "الدولة الحديثة" و"المجتمع الحريدي" المنغلق، فالحريديم، الذين يرون أنفسهم حماة للتوراة، يرفضون فكرة الخدمة العسكرية باعتبارها تهديداً لنمط حياتهم الديني، ومع تزايد أعدادهم وتأثيرهم السياسي، باتت مطالبهم تمثّل صداعاً دائماً في رأس الدولة الصهيونية.
المفارقة أن الجيش، الذي طالما اعتُبر "بوتقة الصهر" للمجتمع الإسرائيلي، يجد نفسه اليوم عاجزاً عن إدماج واحدة من أكبر الكتل السكانية في البلاد، في وقت تتصاعد فيه التهديدات الأمنية على أكثر من جبهة.
فلسطين حاضرة دائماً: تصدّع داخلي يعكس فشل المشروع الصهيوني
بعيداً عن الحسابات التشريعية الضيقة، فإن ما يحدث في الكنيست الإسرائيلي يكشف هشاشة المشروع الصهيوني نفسه، إذ كيف يمكن لكيان يدّعي أنه "ديمقراطي" و"حديث" أن يبقى رهينة لفئة دينية ترفض أبسط متطلبات المواطنة، كالدفاع عن الدولة؟.
هنا تتجلّى روح المقاومة الفلسطينية. فبينما تحاول الدولة العبرية فرض هيمنتها بالقوة، نرى أن التناقضات البنيوية داخلها تعصف بها من الداخل، لقد استطاعت المقاومة، بفضل صمودها وتضحياتها، أن تزعزع صورة الجيش الإسرائيلي كـ "قوة لا تُقهر"، الأمر الذي جعل الكثير من الشبان اليهود، وخاصة الحريديم، يتهربون من الخدمة العسكرية.
هذا التململ الداخلي يُعد انتصاراً غير مباشر للمقاومة الفلسطينية، فحين يبدأ الكيان بتفكك ذاتي، مدفوعاً بصراعات الهوية والدين، يصبح أكثر هشاشة أمام نضال شعبٍ يملك الحق، والإرادة، والرؤية.
المقاومة تُربك الحسابات وتُعيد تعريف القوة
في ظل تصدّع الداخل الإسرائيلي وتهاوي الخطاب الصهيوني حول "وحدة المصير"، تثبت المقاومة الفلسطينية يوماً بعد آخر أنها الطرف الأكثر اتساقاً مع ذاته وصلابة في رؤيته، فبينما يغرق الكيان في أزماته الداخلية، تواصل قوى المقاومة إعادة صياغة مفهوم القوة في المنطقة، ليس فقط عبر الأدوات العسكرية، بل من خلال معادلة الإرادة الشعبية والشرعية الأخلاقية، لقد أصبحت المقاومة اليوم قادرة على فرض توقيتها، وإدارة ردودها، واستخدام أدواتها الذكية في ميادين الحرب النفسية والميدانية، ما جعل القيادة الإسرائيلية عاجزة عن تقديم ردّ حاسم أو استعادة الردع القديم.
وبينما تُهدر تل أبيب جهدها السياسي في صراع البقاء داخل الكنيست، تنمو قدرات المقاومة وتنضج رؤيتها، فالمقاومة لم تعد مجرّد رد فعل على العدوان، بل مشروع تحرّر متكامل، يملك قيادته، ويعرف متى يصبر ومتى يضرب، كل هذا يجري في الوقت الذي يشهد فيه الشارع الإسرائيلي تراجعاً في الثقة بالجيش والحكومة على حد سواء، مقابل تصاعد الإيمان داخل الشارع الفلسطيني بأن النصر ليس احتمالاً نظرياً، بل مساراً عملياً تُثبته كل معركة وكل صمود.
أزمة التجنيد والهروب من المعركة: دلالات رمزية عميقة
في الوقت الذي تُقدِّم فيه أمهات فلسطين أبناءهن شهداء في سبيل الحرية، يسعى الحريديم إلى الحصول على إعفاء قانوني للهروب من ساحات القتال، هذا التناقض الأخلاقي يفضح هشاشة البنية الروحية والرمزية للجيش الإسرائيلي، الذي لم يعد محل إجماع داخلي، حتى بين مواطنيه.
إن رفض الحريديم للانخراط في الحرب لا ينبع من نزعة سلمية، بل من رغبة في الحفاظ على امتيازات دينية على حساب "الدولة" نفسها، بينما يواجه الفلسطيني الموت كل يوم دفاعاً عن أرضه، يبحث الإسرائيلي المتديّن عن مخرج من الجندية بأي ثمن.
المستقبل القريب: انتخابات جديدة أم مزيد من الانهيار؟
تشير المؤشرات إلى أن حل الكنيست، في حال إقراره نهائياً، سيقود البلاد إلى انتخابات مبكرة، وهذه الانتخابات لن تكون مجرد سباق انتخابي، بل اختباراً لمدى صمود "التحالف اليميني-الديني" الذي بات ينهار من الداخل.
في المقابل، فإن المقاومة الفلسطينية تراقب هذا المشهد عن كثب، مدركة أن ضعف الداخل الصهيوني هو فرصة لتعزيز موقعها السياسي والميداني، في كل يوم يضعف فيه خصمك من داخله، يقترب يوم النصر أكثر.