الوقت- في واحدة من أبشع الجرائم الإنسانية التي يشهدها العالم المعاصر، تقف غزة اليوم على حافة كارثة صحية وإنسانية كبرى، وسط انهيار شبه كامل في البنية التحتية الطبية، واستفحال المجاعة، ومنع دخول الأدوية والمساعدات.
ما كشف عنه مدير عام مستشفيات غزة، الدكتور محمد زقوت، من تفاصيل دامغة حول الواقع الطبي الكارثي في القطاع، لا يترك مجالاً للشك في أن ما يحدث هو سياسة تجويع ممنهجة وإبادة بطيئة تستهدف السكان المدنيين، وتحديدًا المرضى والمصابين والنساء الحوامل.
الأونروا تحذر
أكدت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين /الأونروا/، أن الجوع في غزة ليس سوى جزء من الأهوال التي يعيشها الفلسطينيون هناك. وأفادت لويز ووتريدج المتحدثة باسم /الأونروا/ خلال مشاركتها عبر الإنترنت في المؤتمر الصحفي الأسبوعي لمكتب الأمم المتحدة في جنيف، بأن هناك ما يكفي من الغذاء في مستودعات الأونروا في العاصمة الأردنية عمّان لإطعام 200 ألف شخص لمدة شهر.
وأشارت ووتريدج إلى توفر الإمدادات الطبية والمستلزمات التعليمية أيضًا، غير أن العراقيل الإسرائيلية تعيق وصول المساعدات إلى قطاع غزة.
وأضافت: "المساعدات على بعد ثلاث ساعات من قطاع غزة، ومع ذلك، ما زلنا نرى صور أطفال يعانون من سوء التغذية، ونسمع قصصًا عن أسوأ الظروف المعيشية، كان يجب أن تكون هذه الإمدادات في غزة الآن، فلا داعي لإضاعة الوقت".
وقالت ووتريدج، إنه بعد 11 أسبوعًا من تشديد السلطات الإسرائيلية حصارها على قطاع غزة، سمحت بدخول 5 شاحنات فقط.
قبل اندلاع الحرب الأخيرة، كان في قطاع غزة 34 مستشفى عاملاً، أما اليوم، فلم يبقَ منها سوى 10 مستشفيات صغيرة وميدانية، تعمل بقدرة محدودة جدًا، ولا تفي بأدنى الاحتياجات الطبية المتزايدة نتيجة القصف اليومي المتواصل من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
المثال الأوضح على حجم الكارثة يتمثل في "المستشفى الأوروبي" في خان يونس، الذي كان يضم أكثر من 650 سريرًا، ويُعد أحد أبرز مراكز علاج الأورام في غزة، قبل أن يُقصف بشكل مباشر وتُدمر بنيته التحتية، بما في ذلك شبكات المياه والصرف الصحي.
ويؤكد الدكتور زقوت أن هذا المستشفى بات خارج الخدمة بالكامل، وإعادة تشغيله في المستقبل القريب شبه مستحيلة.
الضغط الآن انتقل إلى مستشفى "ناصر" الطبي في جنوب القطاع، وهو الوحيد الذي لا يزال يقدم خدمات نسبية، رغم تكدس المرضى والنقص الحاد في المعدات، بعد خروج مستشفيات كبرى أخرى عن الخدمة، مثل المستشفى الإندونيسي، ومستشفى كمال عدوان، ومستشفى بيت حانون في شمال القطاع.
وفي الوقت الذي يزداد فيه عدد الجرحى والمصابين بشكل يومي نتيجة القصف، تفتقر المستشفيات لما يلزم لعلاجهم، من أجهزة تنفس، وأشعة سينية، وأدوية طارئة، حتى أقسام العناية المركزة تعاني، إذ اضطر مستشفى ناصر لتوسيع قدرته من 12 إلى 42 سريرًا، وهو رقم غير كافٍ بأي حال، ولا سيما في ظل شح الموارد.
ويُحذر الدكتور زقوت من أن غالبية المرضى في هذه الأقسام يفقدون حياتهم بسبب نقص المعدات الأساسية، ما يعني أن الاحتلال لا يكتفي بقتل الفلسطينيين بالقنابل، بل يتعمد أيضًا ترك المصابين يموتون ببطء نتيجة غياب العلاج.
الاحتلال يمنع دخول الأدوية والمستلزمات الطبية
ليست المعضلة فقط في تدمير البنية التحتية الطبية، بل في استمرار منع دخول الأدوية والمستلزمات إلى القطاع المحاصر. تمنع قوات الاحتلال إدخال حتى أبسط الأدوية، بما في ذلك المسكنات، ما يترك أكثر من مليوني فلسطيني تحت رحمة الجوع والمرض.
وفي هذا السياق، شدد المتحدث باسم الأمم المتحدة فرحان حق، على ضرورة ممارسة كل أشكال الضغط الممكنة على إسرائيل لوقف الحرب، وفتح المعابر فورًا لإدخال المساعدات، خاصة الغذائية والطبية، مؤكدًا أن الأمم المتحدة تملك أدلة دامغة على اتساع نطاق المجاعة والمعاناة الإنسانية في القطاع.
الجوع يقتل المرضى أسرع من أمراضهم
ربما كانت شهادة المريض الفلسطيني "فادي أبو رجيلة" المثال الأبلغ على الجريمة التي تُرتكب بصمت، هذا الشاب الثلاثيني، الذي يعاني من فشل كلوي، يرقد على جهاز غسيل كلوي في مستشفى ناصر، وهو يئن جوعًا أكثر مما يتألم من المرض، يقول: "لم أخشَ في حياتي المرض كما أخشى الآن الجوع... صرت أخشى أن أموت من الجوع لا من المرض".
يحتاج مرضى الكلى، وخاصة في أثناء عمليات الغسيل، إلى تغذية خاصة ومياه نظيفة، وهو ما لا يتوافر اليوم في غزة، ووفقًا لمصادر طبية، فإن انعدام هذه الشروط يهدد حياة مئات المرضى، في ظل إغلاق الاحتلال لجميع المعابر منذ 2 مارس، وندرة وجود الطعام حتى لوجبة واحدة يوميًا لأكثر من 2.2 مليون نسمة.
النساء الحوامل والأجنة في دائرة الموت
الوجه الآخر الكارثي للمأساة يطال النساء الحوامل. "منال خالد"، امرأة حامل في شهرها السابع، تعيش في خيمة بمنطقة المواصي بعد أن شُرّدت من رفح. تقول منال: "لا أجد طعامًا ولا ماءً نظيفًا، أشعر أن جنيني لا يصله أي غذاء".
ويؤكد الدكتور محمد بربخ، أخصائي النساء والولادة، أن سوء التغذية أدى إلى ارتفاع كبير في معدلات الإجهاض والولادات المبكرة، وولادة أجنة مشوهة أو ناقصة الوزن، وهو ما يهدد مستقبل جيل بأكمله في غزة.
حتى العمليات الجراحية أصبحت تُلغى أو تُؤجَّل بسبب سوء تغذية المرضى. الدكتور عزالدين شاهين، أخصائي التخدير والعناية المركزة في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح، يقول إن سوء التغذية الحاد يجعل إجراء الجراحات شبه مستحيل، ويؤدي إلى تدهور إضافي في حالة المرضى، وخصوصًا المجروحين.
ويضيف أن حالات كثيرة من الكسور أو الجروح لا تُشفى، بسبب افتقار الجسم للبروتينات والعناصر الغذائية الأساسية، ما يعني أن الجوع لا يقتل فقط، بل يعيق حتى إمكانيات العلاج والبقاء على قيد الحياة.
غياب المساءلة الدولية ودور مجلس الأمن
ورغم كل هذه الحقائق الدامغة، ما يزال المجتمع الدولي عاجزًا أمام المأساة، مجلس الأمن يمتلك كل المعلومات المتعلقة بالوضع الإنساني في غزة، كما أكد فرحان حق، لكنه حتى الآن لم يتخذ قرارات حاسمة تجبر الاحتلال على وقف عدوانه ورفع الحصار.
بل الأسوأ من ذلك، أن العديد من الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا تزال تقدم الغطاء السياسي والعسكري لهذا الحصار، إما عبر التصويت ضد قرارات وقف إطلاق النار، أو عبر تبرير المجازر تحت ذريعة "حق الدفاع عن النفس".
ما يجري في غزة ليس مجرد كارثة إنسانية، بل عملية إبادة بطيئة تجري أمام أعين العالم، وبمباركة دولية ضمنية، قصف المستشفيات، تدمير المراكز الصحية، منع دخول الأدوية، استهداف الأطباء والمسعفين، وفرض المجاعة على المرضى، كلها عناصر تندرج تحت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
الفلسطينيون في غزة لا يموتون فقط بالقنابل، بل بالجوع، بالعطش، بانعدام الأدوية، وبالخذلان الدولي، وصوت العالم، حتى حين يُسمع، يبقى عاجزًا عن إيقاف آلة القتل التي حوّلت المستشفيات إلى مقابر، والأطفال إلى جثث جائعة، والنساء الحوامل إلى حاضنات لفقدان الأمل.