الوقت - منذ انطلاق قافلة "الصمود" المغاربية من تونس، مرورًا بالأراضي الليبية، وصولًا إلى البوابة الشرقية لمصر، عاد الدور المصري المحوري في القضية الفلسطينية إلى الواجهة، لكن هذه المرة في سياق أكثر حساسية وتعقيدًا، القافلة، التي تحمل رمزية شعبية وإنسانية قوية، تواجه عند المعبر المصري معضلة لم تكن مفاجئة، إذ إن القاهرة لم تبادر، حتى الآن، بمنح التصريح الرسمي بدخول القافلة إلى أراضيها، رغم تعدد المناشدات وتوسّط عدة أطراف.
فما الذي يدفع السلطات المصرية إلى التريث وربما التمنّع عن استقبال قافلة دعم لغزة؟ وكيف توازن مصر بين تأييدها المبدئي للقضية الفلسطينية، واعتبارها خطًا أحمر في سياستها الخارجية، وبين حساسية أمنها القومي والتحديات التي تواجهها شرقًا وغربًا؟ وهل بالفعل تخشى القاهرة من "تسييس" قافلة إنسانية أم إنها ترى فيها تجاوزًا لبروتوكولات السيادة؟
دور مصر في القضية الفلسطينية: بين الالتزام التاريخي والهواجس الأمنية
لأكثر من سبعة عقود، كانت مصر في قلب كل محطة مصيرية تخص فلسطين، من حروب عام 1948 و1967 و1973، إلى رعاية المصالحات بين الفصائل الفلسطينية، وفتح معبر رفح أمام الحالات الإنسانية، مرورًا بمشاركتها في جهود إعادة الإعمار بعد كل عدوان على غزة، هذا الدور أكسب القاهرة شرعية معنوية كأحد أبرز المدافعين عن الشعب الفلسطيني وحقوقه.
لكن في السنوات الأخيرة، وخصوصًا بعد عام 2013، تبنّت مصر سياسة أكثر صرامة على حدودها الشرقية، بعد تصاعد الخطر الإرهابي في شمال سيناء، ما دفعها لتشديد الرقابة على معبر رفح والأنفاق الحدودية، وفرض قيود أمنية صارمة على أي حركة في المنطقة.
في هذا السياق، لا يبدو مفاجئًا أن تتريث القاهرة في السماح لقافلة بحجم "الصمود" بالدخول، وخاصة مع غياب التنسيق المسبق، وفق ما تقوله مصادر مصرية، عبر القنوات الرسمية المتمثلة في سفارات الدولة أو وزارة الخارجية، فالمبدأ المصري بسيط وواضح: لا مانع من التضامن، شريطة عدم المساس بالسيادة، وعدم السماح لأي "أجندات" بتجاوز الدولة أو إحراجها دوليًا.
بيانات رسمية تؤكد: مصر لا تمنع التضامن ولكن ضمن الأطر القانونية
في بيان صدر عن وزارة الخارجية المصرية، أكدت القاهرة مجددًا التزامها بإيصال المساعدات إلى غزة، مع الإشارة إلى أن معبر رفح مفتوح بشكل مستمر منذ بداية الحرب الأخيرة، ويتم من خلاله إدخال أطنان من المساعدات الإنسانية والطبية والغذائية، فضلًا عن استقبال الجرحى والمرضى.
لكن البيان شدد كذلك على أن أي مبادرة شعبية أو قافلة تضامن يجب أن تلتزم بالإجراءات الرسمية المنظمة، منعًا لحدوث اختراقات أمنية، أو تكرارًا لتجارب سابقة جرى فيها تسييس القوافل، مثل ما حدث مع "أسطول الحرية" في 2010 أو مع قوافل عربية دخلت العريش ثم تحولت إلى أزمة دبلوماسية أو أمنية.
إعلام الدولة: دعم غزة لا يعني تسليم الحدود
في مواجهة الجدل الشعبي، خرج عدد من الإعلاميين البارزين – الذين يُعرفون بقربهم من دوائر القرار – بتصريحات قوية ضد القافلة ومنظميها، وصلت أحيانًا إلى حد الاتهام بـ"المزايدة" أو "الاستعراض الإعلامي".
نشأت الديهي وصف القافلة بأنها "عرض إعلامي"، مؤكدًا أن مصر قدمت أكثر مما قدمه الجميع لغزة، وأن "السيادة المصرية ليست مجالًا للتفاوض أو التلاعب".
أما أحمد موسى فذهب أبعد من ذلك، محذرًا من أن دخول القافلة بدون تنسيق قد يكون "ثغرة أمنية" لا يمكن التهاون معها، داعيًا السلطات إلى رفض أي محاولات "لإحراج مصر أو فرض أجندة شعبوية على حساب أمنها القومي".
هذه اللغة الإعلامية، رغم حدّتها، تعكس قلقًا حقيقيًا لدى الدولة من التوظيف السياسي للقضية الفلسطينية، في وقت تواجه فيه القاهرة تحديات داخلية وإقليمية، سواء على الحدود مع ليبيا، أو في ملف سد النهضة، أو عبر الحملات الغربية المرتبطة بحقوق الإنسان.
بين الموقف الشعبي المصري والقرار السيادي الرسمي
على الأرض، يُظهر الشعب المصري، بمختلف أطيافه، دعمًا مطلقًا لغزة، وتشارك النقابات والمجتمع المدني المصري في إرسال قوافل طبية وتبرعات، لكن الدولة تُصر على أن الدعم لا يمكن أن يكون عشوائيًا أو غير منظم.
وهنا يتجلى الفارق بين "التضامن الشعبي العاطفي" و"الإدارة السيادية العقلانية"، فمصر لا تنظر إلى غزة من باب العاطفة فقط، بل من باب المصالح العليا، والتوازنات الدقيقة، وعدم الوقوع في فخاخ قد تستغل أزمات إنسانية لتحقيق مكاسب سياسية.
رسائل مصر الضمنية: لا للتهجير، لا للمزايدة، نعم لفلسطين
ثمة ما يشبه "الرسائل المشفرة" التي ترسلها القاهرة من خلال هذا الموقف:
لا تهجير للفلسطينيين إلى سيناء: هذا خط أحمر واضح كررته القيادة المصرية في أكثر من مناسبة، ورفضت عروضًا أمريكية وسعودية لشراء هذا الموقف تحت عناوين الإعمار أو المساعدات.
لا لتحويل الأراضي المصرية إلى ساحة تصفية حسابات: وخاصة في ظل استقطابات عربية عميقة، ومحاولات بعض الأطراف الإقليمية إحراج مصر أو تصويرها كطرف سلبي.
نعم لغزة، نعم لفلسطين، ولكن ضمن إطار الدولة المصرية: لا يمكن السماح باجتياز الحدود، ولا يمكن ترك التنظيمات أو الأفراد يتحركون خارج الرقابة الرسمية.
في النهاية، تقف مصر عند مفترق صعب: فهي لا تريد أن تظهر كمن يمنع الدعم عن غزة، لكنها كذلك ترفض أن يُنظر إليها كمن يسمح بتجاوز سيادتها. الرسالة المصرية واضحة: التضامن لا بد أن يمر عبر الدولة، لا أن يتجاوزها.
وقافلة "الصمود"، إن أرادت المرور، فعليها التفاهم لا التحدي، التنسيق لا الضغط، الحوار لا التصعيد. فمصر، رغم كل التعقيدات، تبقى – شاء من شاء وأبى من أبى – البوابة الكبرى لفلسطين، والعنصر الحاسم في معادلة المنطقة.