الوقت- تشهد الساحة الفلسطينية، وتحديدًا قطاع غزة، تطورات متسارعة في ظل الحرب المستمرة منذ أكثر من سنة ونصف، في وقت تتكثف فيه الجهود الإقليمية والدولية للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين "إسرائيل" وحركة حماس.
هذه الجهود، التي تقودها بعض الدول التي تقوم بالوساطة، تصطدم بعقبات سياسية وعسكرية وأمنية، وخاصة في ظل انعدام الثقة المتبادل والانقسامات داخل القيادة الإسرائيلية ذاتها، في خضم هذه الديناميكية المتوترة، تأتي مقترحات جديدة تُعرض وتُعدّل، لكنها تبقى حبيسة المناورات والتردد، دون ضمانات فعلية تُنهي الحرب أو تخفف المعاناة الإنسانية المتفاقمة في القطاع.
الضغط الأمريكي وتغيير المسار "الإسرائيلي"
أظهرت الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب موقفًا متغيرًا في تعاطيها مع الحرب على غزة، إذ وجّه الرئيس الأمريكي دعوة مباشرة لرئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو بضرورة إنهاء الحرب والتوقف عن الحديث عن تصعيدات إضافية، هذه المكالمة الهاتفية، التي وصفها ترامب بـ"السلسة للغاية"، تُعد مؤشرًا واضحًا على رغبة واشنطن في تهدئة الأوضاع، ليس فقط لحسابات إنسانية، بل لأهداف استراتيجية أوسع، هذا التحول في الموقف الأمريكي يعكس قلقًا متزايدًا من امتداد الحرب وتداعياتها على الأمن الإقليمي، وكذلك على صورة الولايات المتحدة التي انكشفت خلال الفترة الماضية.
ورغم أن الضغط الأمريكي لم يتحول بعد إلى خطوات عملية أو علنية تجاه تل أبيب، إلا أن مجرد توجيه الطلب بهذا الشكل العلني يضع نتنياهو في موقف حرج داخليًا، وخصوصًا مع تزايد الأصوات المطالبة داخل "إسرائيل" بإيجاد مخرج للحرب، كما أن واشنطن تسعى عبر هذا الضغط إلى تهيئة مناخ تفاوضي يمكن أن يُفضي إلى تهدئة ولو مؤقتة، لتسهيل جهود الوسطاء في القاهرة والدوحة، غير أن الاستجابة الإسرائيلية تبدو حذرة، بل مترددة، ما يعكس حجم التوتر داخل دائرة صنع القرار الإسرائيلي، ويزيد من تعقيد المشهد السياسي في لحظة حساسة.
المبادرات المطروحة وحدودها السياسية والعملية
رغم وجود مقترحات متكررة من الأطراف الوسيطة، وآخرها المقترح المعدل الذي تتم مناقشته حاليًا في الدوحة، إلا أن غياب الضمانات الجادة لتنفيذه، وخاصة من الجانب الإسرائيلي، يضعف من فرص نجاح أي اتفاق.
حسب مصادر مصرية، فإن هذا المقترح يشمل بنودًا تلبي بعض مطالب حماس، من ضمنها وقف مؤقت لإطلاق النار، وإطلاق سراح دفعات من الأسرى، واستعادة الجثامين، لكن دون أي التزام صارم بإيقاف العمليات العسكرية بشكل دائم.
الوسطاء الدوليون، وخصوصًا مصر وقطر، يسعون جاهدين إلى تحقيق تقدم ولو جزئي على الأرض، إلا أن المقترح يواجه تشكيكًا من قبل حماس، التي اعتبرت غياب الضمانات إخلالًا جوهريًا بأي فرصة لتحقيق هدنة مستدامة.
كما أن بعض البنود المطروحة تحمل طابعًا استعراضيًا أكثر من كونها تعبيرًا عن نية حقيقية لإنهاء القتال، ومن جهة أخرى، فإن تفاصيل مثل تقسيط الإفراج عن الأسرى والجثامين، والتزام الهدنة لمدة 60 يومًا فقط، تثير تساؤلات حول النوايا الحقيقية لـ"إسرائيل" ومدى استعدادها للانخراط في عملية سلام حقيقية.
إن هذا الغموض والضعف في بنية المقترحات لا يعكس فقط أزمة ثقة بين الأطراف، بل يكشف أيضًا عن طابع المناورة السياسية التي تحكم مواقف الأطراف الفاعلة، وغياب ضغط دولي فعّال يُلزم الطرف الأقوى – أي "إسرائيل" – باحترام الاتفاقات.
أزمة القرار داخل القيادة "الإسرائيلية" وتداعياتها
تشير التقارير الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء إلى وجود انقسام حاد داخل القيادة الإسرائيلية بشأن كيفية التعامل مع ملف الحرب وتبادل الأسرى، ففي الوقت الذي تبدي فيه بعض حركة المقاومة حماس رغبة في التوصل إلى اتفاق يخفف من حدة الأزمة، يصر نتنياهو على التعامل مع الملف وفق حسابات سياسية داخلية بالدرجة الأولى، متجاهلًا أصوات العائلات الإسرائيلية التي تطالبه بإعادة أبنائها وإنهاء الحرب، هذه العائلات خرجت في مظاهرات وطالبت بشكل علني بوقف العمليات العسكرية مقابل إطلاق سراح الأسرى.
في المقابل، تتحدث مصادر مطلعة عن قيام نتنياهو بتجميد تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، والتي كانت تشمل إطلاق سراح دفعات إضافية من الأسرى الفلسطينيين، هذا القرار الذي جاء بعد مشاورات داخلية، أثار استياء حركة حماس والوسطاء على حد سواء، واعتُبر انتهاكًا صريحًا للتفاهمات الأولية.
يبدو أن نتنياهو يسعى إلى كسب الوقت، وإرضاء تحالفاته السياسية المتطرفة، حتى وإن كان ذلك على حساب الاستقرار الإقليمي، إن أزمة القرار داخل الحكومة الإسرائيلية، وعدم وضوح الرؤية المستقبلية، يضع المفاوضات الجارية أمام مأزق حقيقي، وفي ظل غياب قيادة موحدة وموقف سياسي جاد، تبقى فرص التقدم نحو هدنة حقيقية ضئيلة، بل تتعرض جهود التهدئة لخطر الانهيار الكامل.
موقف حركة حماس وردود الفعل على الأرض
على الجانب الآخر، تتعامل حركة حماس بحذر شديد مع المقترحات المتداولة، رغم إعلانها المستمر عن الانفتاح على فكرة وقف إطلاق النار، بشرط أن يتضمن أي اتفاق ضمانات أمنية حقيقية وإنهاءً كاملاً للحرب.
في بيان رسمي، أكدت الحركة أنها لم ترفض المقترح الأمريكي الأخير لكنها قدمت تعديلات تهدف إلى حماية الشعب الفلسطيني من هجمات مستقبلية، كما شددت على أن أي اتفاق يجب أن يشمل انسحابًا كاملاً للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة.
هذا الموقف يعبّر عن إدراك حماس لتعقيدات اللحظة السياسية، ورغبتها في الخروج من المعركة دون خسارة رمزية أو سياسية، وخصوصًا في ظل حجم الدمار والضحايا المدنيين، في الوقت نفسه، تبقى الحركة حريصة على عدم منح "إسرائيل" مكاسب مجانية دون مقابل واضح، ومن هنا، فإن تجاوبها مع المقترحات مرتبط بموقف الوسطاء وضماناتهم، لا بمرونة إسرائيلية لا تُترجم إلى أفعال.
ردود الفعل في الشارع الفلسطيني تعكس حالة من الانهاك والغضب، حيث يعاني المدنيون من كارثة إنسانية حقيقية، وسط نقص الغذاء والماء والدواء، لذا فإن أي اتفاق لا يُترجم إلى وقف فعلي للعدوان وتسهيل للمساعدات، سيُنظر إليه كخطوة تجميلية لا أكثر، وهو ما يهدد بفقدان الثقة نهائيًا بأي عملية تفاوض مستقبلية.
دور الوسطاء الإقليميين والتحديات أمامهم
تلعب كل من مصر وقطر دورًا محوريًا في الوساطة بين "إسرائيل" وحماس، مستفيدة من علاقتها المتوازنة مع الطرفين.
القاهرة، التي تملك خبرة طويلة في هذا النوع من المفاوضات، تستضيف الوفود وتدير النقاشات الفنية، بينما توفر الدوحة الغطاء السياسي والدعم المالي لتيسير التفاهمات، ومع ذلك، يواجه الوسطاء تحديات حقيقية، أبرزها غياب الالتزام الإسرائيلي الفعلي، والانقسام الداخلي في تل أبيب، والتشدد من جانب بعض أطراف الحكومة الإسرائيلية.
من جهة أخرى، يضع استمرار التصعيد الميداني والعدد المتزايد من الضحايا المدنيين الوسطاء في موقف حرج، حيث يتعرضون لضغوط من مختلف الأطراف لتحقيق نتائج ملموسة وسريعة.
كما أن الرأي العام العربي والدولي بدأ يفقد صبره إزاء تكرار الهدن المؤقتة التي تنهار سريعًا بسبب غياب الضمانات وآليات التنفيذ.
جهود الوسطاء تظل حيوية، لكنها بحاجة إلى دعم دولي أوسع، وربما إلى مظلة أممية تفرض حدًا أدنى من الالتزام، في غياب ذلك، تبقى هذه المبادرات رهينة للنوايا المتقلبة والخطاب السياسي الإسرائيلي الداخلي، ولا يمكن التعويل عليها لإحداث تغيير جذري في واقع الحرب على غزة.
ختاما، تكشف التطورات الأخيرة في ملف غزة أن المعركة لم تعد محصورة في الميدان العسكري فقط، بل أصبحت معركة سياسية بامتياز، تحكمها الحسابات الداخلية والمصالح الإقليمية والدولية، ورغم تعدد المبادرات وتكثيف الوساطات، فإن غياب الإرادة الحقيقية لإنهاء الحرب، وخاصة من جانب إسرائيل، يضع مستقبل التهدئة في مهب الريح، وبين ضغط العائلات الإسرائيلية، وصمود الشارع الفلسطيني، وتردد القيادة الإسرائيلية، يبدو أن الطريق إلى سلام مستدام لا يزال بعيدًا، ما لم تتوافر ضمانات واضحة والتزامات حقيقية من جميع الأطراف المعنية.