الوقت- في ظل استمرار المجازر اليومية في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، برزت تحركات سياسية وأمنية غربية تسعى لإعادة هندسة المشهد الإنساني الفلسطيني بما يتماشى مع مصالح الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه.
أحد أبرز هذه التحركات تمثّل في إطلاق ما يُعرف بـ"مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF)، والتي أعلنت مؤخرًا تعليق أنشطتها في القطاع بذريعة تعرّض موظفيها لـ"تهديد مباشر من قبل حركة حماس"، في خطوة وُصفت بأنها جزء من حملة دعائية منظمة ضد المقاومة الفلسطينية.
لكن خلف هذه المزاعم، تكمن حقائق خطيرة وأهداف خفية، تكشف عن بُعد استخباراتي وأمني واضح يقف خلف تأسيس هذه المؤسسة، وهو ما أثار موجة قلق واسعة بين نشطاء العمل الإنساني والقانوني، وخصوصًا بعد كشف تفاصيل دقيقة عن تركيبة المؤسسة وشبكة علاقاتها الأمنية.
تأسيس المؤسسة.. غطاء إنساني لتحركات استخباراتية
تأسست مؤسسة "غزة الإنسانية" (GHF) قبل أشهر فقط، في وقت متزامن مع بدء العدوان الإسرائيلي الشامل على غزة، وتم تسجيلها رسميًا في مدينة جنيف السويسرية، بهدف ظاهر يتمثل في "تقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة"، لكنها سرعان ما افتتحت مكتبين إضافيين في الولايات المتحدة، وبدأت بالعمل بشكل ميداني في المناطق الحدودية للقطاع، وخصوصًا في جنوب رفح.
وفقًا لتقرير نشره موقع "واللا نيوز" العبري، فإن المؤسسة لم تأتِ لتعزيز جهود الإغاثة، بل لتقويض عمل منظمات الأمم المتحدة، وعلى رأسها وكالة الأونروا، وذلك من خلال خلق قنوات بديلة تخضع للرقابة الأمريكية والإسرائيلية، ووفق التقرير، فقد تم إنشاء المؤسسة بتمويل مشترك من وزارة الخارجية الأمريكية وبعض الجهات الأمنية الإسرائيلية، بدعوى "ضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها دون تدخل حماس".
ردّ حماس وفضح الأهداف الخفية
في أول ردّ رسمي على قرار المؤسسة وقف أنشطتها، نفى مسؤول رفيع في حركة حماس، في تصريحات لوكالة "رويترز"، وجود أي تهديد أو تحرّك من قبل المقاومة ضد موظفي المؤسسة، مؤكداً أن هذه الادعاءات "مجرد تبرير للانسحاب من مهمة فشلت في تحقيق أهدافها الاستخباراتية والسياسية"، وأشار المسؤول إلى أن الشعب الفلسطيني "أصبح واعيًا لمحاولات التسلل تحت عناوين إنسانية لتنفيذ أجندات مشبوهة".
لكن ما كشفته اتحادات قانونية فلسطينية في أوروبا سلّط الضوء على جانب أكثر خطورة في هذا الملف، فقد أعلن رئيس اتحاد المحامين الفلسطينيين في سويسرا، ماجد أبو سلامة، في بيان صحفي عبر صفحته الرسمية، أن "غالبية أعضاء مؤسسة غزة الإنسانية ينتمون إلى أجهزة عسكرية واستخباراتية أمريكية"، مشيرًا إلى أن الهدف الحقيقي للمؤسسة هو "جمع البيانات والمعلومات التي تسهّل السيطرة على غزة".
البيان الصادر عن أبو سلامة تضمن تفاصيل صادمة عن التعاون القائم بين مؤسسة GHF وشركة أمنية تدعى "ساف ريتش سولوشنز"، وهي شركة أمريكية خاصة متخصصة في العمليات العسكرية، وتقوم بتوظيف متقاعدين عسكريين، خبراء أمنيين، ومتخصصين في التحليل البصري.
وحسب البيان، يتقاضى العاملون في هذا المشروع نحو 1000 دولار يوميًا مقابل جمع وتحليل المعلومات الميدانية في غزة، من خلال مراقبة الأماكن التي توزع فيها المساعدات، واستخدام طائرات من دون طيار (درونز)، وغرف مراقبة ذكية، ووسائل تصوير حراري وبصري لتحديد هويات السكان وتتبع تحركاتهم.
وأضاف أبو سلامة إن عددًا من الموظفين في هذه المؤسسة لديهم خبرة سابقة في العمل في الخطوط الأمامية للعمليات العسكرية الأمريكية، وتم تدريبهم على تنفيذ مهام أمنية سرّية، تشمل تحليل الأنماط السلوكية للمجتمعات، وهو ما يجعل من "مؤسسة غزة الإنسانية" أقرب إلى جهاز استخباراتي ميداني منها إلى منظمة إنسانية.
مخاوف قانونية وتحركات دولية
تزامنًا مع تصاعد هذه الاتهامات، كشف اتحاد المحامين الفلسطينيين في سويسرا عن تقديمه دعويين قضائيتين أمام السلطات الفيدرالية السويسرية، للمطالبة بفتح تحقيق رسمي في خلفيات المؤسسة، وتجميد أنشطتها، ومراقبة تمويلها، كما طالب الاتحاد بضرورة إخضاع أنشطتها لمعايير الشفافية والمساءلة التي تفرضها اتفاقيات جنيف بشأن العمل الإنساني في مناطق النزاع.
وأشار أبو سلامة إلى أن تسجيل مؤسسة بهذه الخلفية الأمنية في سويسرا "يمثل خرقًا صارخًا للقوانين الدولية والإنسانية، التي تحظر استخدام العمل الإغاثي كغطاء لأنشطة استخباراتية"، مؤكداً أن الاتحاد يعمل بالتنسيق مع شركاء في مؤسسات دولية مستقلة لتوثيق الانتهاكات التي ارتكبتها هذه المؤسسة بحق سكان غزة، ولا سيما في مناطق جنوب رفح.
تجسس تحت غطاء المساعدات
على الأرض، تشير تقارير وشهادات من سكان غزة إلى وجود نشاط مكثف لطائرات مسيّرة فوق مراكز توزيع المساعدات التي كانت المؤسسة تديرها، وتحدث مواطنون عن "وجود غير مبرر لطائرات درون تحلق بشكل دائم فوق تلك المناطق، وغرف مراقبة متنقلة مزودة بشاشات تحليل بصري"، الأمر الذي أثار شكوك الأهالي ودفع بعضهم إلى الامتناع عن الاقتراب من تلك المواقع.
وأكد ناشطون ميدانيون أن كثيرًا من سكان القطاع لاحظوا وجود معدات متطورة لا تتناسب مع طبيعة المهام الإغاثية، بما في ذلك معدات اتصالات مشفرة، وأجهزة تتبع إلكترونية، كما لاحظ بعض السكان قيام العاملين في المؤسسة بتصوير وجوه المتقدمين لتلقي المساعدات، وهو ما يشكّل خرقًا للخصوصية ويثير شبهة التجسس.
خيانة للمبادئ الإنسانية
في ختام بيانه، اعتبر رئيس اتحاد المحامين الفلسطينيين في سويسرا أن "أي تعامل رسمي مع مؤسسة غزة الإنسانية يُعد خيانة للمبادئ الإنسانية والقانون الدولي، ويشكّل دعمًا لعملية استخباراتية تهدد الأمن المجتمعي لسكان غزة"، ودعا إلى استئناف توزيع المساعدات الإنسانية من خلال قنوات الأمم المتحدة المعترف بها، مثل الأونروا، ومنظمات الصليب الأحمر، لضمان الشفافية وحماية المستفيدين.
كما شدد على أهمية كشف مزيد من المعلومات حول علاقة المؤسسة بالأجهزة العسكرية الأمريكية، مشيرًا إلى أن الهدف النهائي من هذا المشروع ليس الإغاثة، بل تحويل المساعدات إلى أداة للابتزاز السياسي والمراقبة الأمنية، ما قد يعرّض حياة المدنيين للخطر ويكرّس الانقسام والهيمنة.
تشكّل قضية "مؤسسة غزة الإنسانية" نموذجًا صارخًا لاختراق المساعدات الإنسانية وتحويلها إلى أدوات أمنية تخدم أجندات الاحتلال وحلفائه، وتكشف هذه القضية الحاجة الملحة لإعادة ضبط آليات العمل الإنساني في مناطق النزاع، ورفض كل المبادرات المشبوهة التي تحمل طابعًا سياسيًا أو استخباراتيًا، تحت غطاء العون الإنساني.
إن ما يجري في غزة لا يحتمل المساومة أو الاستغلال، بل يتطلب موقفًا دوليًا صارمًا لحماية المدنيين ومحاسبة من يحوّلون الكارثة إلى فرصة لجمع المعلومات وتمرير المشاريع الاستعمارية من بوابة العمل الخيري.