الوقت- في واحدة من أكثر الحوادث فظاعة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي على إطلاق النار المباشر صوب آلاف الفلسطينيين الذين تجمّعوا في منطقة تل السلطان بمدينة رفح جنوب القطاع، بينما كانوا ينتظرون مساعدات غذائية بالكاد تُبقيهم على قيد الحياة، هذه الجريمة، التي وثّقتها وسائل إعلام ومؤسسات دولية، ليست حادثًا عابرًا، بل مشهدًا آخر ضمن سلسلة طويلة من الانتهاكات المنظمة التي تُظهر استخدام التجويع كسلاح وتحويل الاحتياجات الإنسانية إلى أداة لإذلال المدنيين ومعاقبتهم جماعيًا.
ماذا حدث في تل السلطان؟
في الـ27 من مايو 2025، تجمّع آلاف الفلسطينيين في منطقة تل السلطان بمدينة رفح، عقب تداول أنباء عن توزيع مساعدات غذائية، ووفقًا لمكتب الإعلام الحكومي في غزة، كان التجمع سلميًا بالكامل، وضم عددًا كبيرًا من النساء والأطفال وكبار السن، في مشهد يعكس عمق الأزمة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع.
غير أن الحضور تحوّل سريعًا إلى كابوس، بعدما أطلق جنود الاحتلال المتمركزون في محيط المنطقة الرصاص الحي بشكل مفاجئ، ما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى، بعضهم أصيبوا في الرأس والصدر بشكل مباشر، ونقلت قناة الجزيرة عن شهود عيان أن إطلاق النار لم يكن تحذيريًا أو نتيجة حالة فوضى، بل بدا وكأنه عملية مبيتة لإحداث أكبر عدد من الإصابات.
وأعلنت وزارة الصحة في غزة أن الحصيلة الأولية بلغت 12 شهيدًا وأكثر من 45 جريحًا، بينما تحدثت فرق الإسعاف عن صعوبة الوصول إلى الضحايا بسبب استمرار إطلاق النار.
التجويع كسلاح في يد الاحتلال
منذ بداية الحرب الإسرائيلية في الـ 7 من أكتوبر 2023، اتخذت "إسرائيل" سياسة ممنهجة تقوم على قطع الإمدادات الأساسية عن سكان غزة، بما في ذلك الغذاء والدواء والماء والوقود، وقد وصفت الأمم المتحدة هذا الحصار بأنه "عقاب جماعي" و"انتهاك جسيم للقانون الدولي الإنساني".
وما يزيد من خطورة المشهد أن الاحتلال الإسرائيلي – بالتعاون مع الولايات المتحدة – شرعت مؤخرًا في إطلاق مبادرة جديدة لتوزيع المساعدات، عُرفت باسم "مؤسسة غزة الإنسانية" ، والتي تهدف – حسب مراقبين – إلى تجاوز المنظمات الدولية مثل "الأونروا"، وفرض تحكم مباشر على قنوات المساعدة، ما يُحوّل المساعدات الإنسانية إلى وسيلة ابتزاز سياسي.
ووفقًا لتحليل نشرته وكالة رويترز، فإن الهدف من هذه المبادرة لا يقتصر على الإغاثة، بل يشمل إعادة هندسة البنية الاجتماعية في غزة، عبر فصل السكان عن ممثليهم وفرض "نظام إنساني بديل" يشرف عليه الاحتلال وحلفاؤه.
وهنا تتضح الخطورة في حادثة تل السلطان؛ إذ يظهر أن المساعدات أصبحت أداة للفخّ: يتم استدراج الجياع، ثم تتم معاقبتهم لأنهم تجرؤوا على طلب الحياة.
الأثر الإنساني والاجتماعي – انعدام الثقة والصدمة الجماعية
تُضاف جريمة رفح إلى سلسلة من المجازر التي تستهدف المدنيين في لحظات ضعفهم، مثل مجزرة شارع الرشيد في فبراير 2024، والتي قُتل فيها أكثر من 110 فلسطينيين أثناء انتظارهم للطعام.
هذه الحوادث تركت أثرًا نفسيًا بالغًا على المجتمع الغزّي؛ إذ أفادت تقارير طبية محلية بأن حالات القلق، الاكتئاب، والصدمات النفسية ارتفعت بنسبة 70% خلال الشهور الأخيرة، وخصوصًا في أوساط الأطفال.
كما حذّرت منظمة "أنقذوا الأطفال" من أن هذا النمط من العنف يهدد النسيج الاجتماعي ويؤسس لجيل يعيش تحت ضغط العنف والجوع وفقدان الأمل.
وفي تصريح لقناة الجزيرة، قال أحد سكان رفح: "ذهبنا لنبحث عن الطعام فعُدنا بالدماء، كيف سنثق بأي جهة تدّعي أنها ستساعدنا بعد اليوم؟".
الموقف الدولي – تواطؤ بالصمت أم شراكة بالفعل؟
رغم وضوح الجريمة، فإن معظم العواصم الغربية، بما فيها واشنطن ولندن وباريس، اكتفت بتصريحات باهتة من قبيل "القلق" و"الدعوة إلى التهدئة"، من دون تحميل الاحتلال الإسرائيلي أي مسؤولية قانونية أو أخلاقية.
في المقابل، دانت عدد من الدول العربية والإسلامية، على رأسها قطر وتركيا وإيران، ما جرى في رفح، ووصفت الحادثة بأنها "جريمة ضد الإنسانية"، داعية إلى فتح تحقيق دولي مستقل وتقديم مرتكبي المجازر إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وقد حذّرت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان من أن استمرار استهداف المدنيين في غزة، سواء عبر القصف أو عبر حصار الغذاء، "يُقوّض بشكل خطير مصداقية النظام الدولي لحقوق الإنسان".
"إسرائيل" تفقد شرعية السلاح و"الخطاب الأخلاقي"
يبدو أن "إسرائيل"، التي طالما قدّمت نفسها كدولة ديمقراطية تحارب "الإرهاب"، فقدت ما تبقى من شرعيتها الأخلاقية أمام المجتمع الدولي، إذ كيف يمكن تبرير إطلاق النار على نساء وأطفال جوعى ينتظرون كيس دقيق أو زجاجة ماء؟ وكيف يمكن استمرار دعمها من قبل دول كبرى تدّعي الدفاع عن "النظام العالمي القائم على القيم"؟.
ما جرى في رفح ليس فقط انتهاكًا للقانون الدولي، بل فضيحة سياسية وأخلاقية لكل من يغضّ الطرف، أو يبرّر، أو يصمت، فالسكوت هنا لم يعد حيادًا، بل بات تواطؤًا يرقى إلى الشراكة في الجريمة.
في الختام... إن حادثة تل السلطان، بما تمثله من تعمّد في استهداف المدنيين، تستوجب تحقيقًا دوليًا عاجلًا وشاملًا، يُفضي إلى محاسبة الجنود والقادة المسؤولين، لا الاكتفاء ببيانات الإدانة الشكلية.
كما أن على المجتمع الدولي أن يعيد النظر في آليات تقديم المساعدات، بما يضمن استقلاليتها الكاملة عن الاحتلال، ويمنع تكرار استغلالها كوسيلة للقتل.
حیث إن صمت العالم عن إطلاق النار على الجوعى، هو رصاصة أخرى تُطلق على منظومة القيم الإنسانية نفسها.