الوقت- في تطور جديد ومثير للجدل على الساحة القانونية والسياسية الدولية، كشفت تقارير صادرة عن صحيفة "وول ستريت جورنال"، نقلاً عن مسؤولين حاليين وسابقين في المحكمة الجنائية الدولية، أن المدعي العام كريم خان كان في صدد التحضير لطلب إصدار أوامر اعتقال بحق اثنين من أبرز أعضاء الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، قبل أن يذهب في إجازة.
ويُعتقد أن التحقيقات تشمل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وذلك على خلفية دورهما المحوري في توسيع الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة.
الاستيطان الإسرائيلي: من سياسات حكومية إلى تهم بارتكاب جرائم حرب
تركز الاتهامات التي يدرسها الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية على ما إذا كان الوزيران قد شاركا أو شجعا بشكل مباشر بناء مستوطنات يهودية في الضفة الغربية، في مخالفة واضحة للقانون الدولي الإنساني، وبموجب اتفاقيات جنيف، يُعدّ نقل سكان الدولة المحتلة إلى الأراضي التي تحتلها، عملاً محظورًا، وقد يرقى إلى جريمة حرب، هذه الاتفاقيات، التي تشكل حجر الأساس في القانون الإنساني الدولي، لا تترك مجالاً واسعًا للتأويل في هذه النقطة، رغم محاولات الكيان الإسرائيلي المتكررة لنزع صفة "الاحتلال" عن الضفة الغربية.
سموتريتش وابن غفير، وكلاهما يقيم في مستوطنات في الضفة الغربية، لطالما عبّرا عن مواقف لا تقبل اللبس بشأن رفض فكرة الدولة الفلسطينية، وتأييد توسيع السيطرة الإسرائيلية على الضفة، بل إن سموتريتش دعا علنًا إلى ضم المنطقة ج بالكامل لـ"إسرائيل"، وهي المنطقة التي تمثل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية وتخضع لسيطرة إسرائيلية كاملة بموجب اتفاق أوسلو.
يجادل الكيان الإسرائيلي، ومنذ عقود، بأن الضفة الغربية لا تُعتبر "أرضًا محتلة" بالمعنى القانوني، لأنها لم تكن تخضع لسيادة دولة معترف بها قبل احتلالها عام 1967، وإنما كانت تحت الإدارة الأردنية، ووفق هذا المنطق، فإن الحظر الدولي على نقل السكان لا ينطبق على الضفة الغربية، إلا أن هذا التفسير مرفوض دوليًا، وقد أكدته مؤخرًا محكمة العدل الدولية، التي وصفت المستوطنات بأنها غير قانونية وتتنافى مع التزامات الكيان الإسرائيلي كقوة محتلة.
الاختلاف بين الرواية الإسرائيلية وتفسير القانون الدولي يمثل جوهر الأزمة القانونية والسياسية الحالية، فبينما يسعى الكيان الإسرائيلي لإعادة تعريف المفاهيم القانونية بما يخدم سياستها الاستيطانية، يتمسك المجتمع الدولي، بما في ذلك الأجهزة القضائية الدولية، بمبادئ لا تحتمل المرونة في تفسيرها.
السياق السياسي الحساس داخل المحكمة الجنائية
ما يضيف تعقيدًا كبيرًا إلى هذه القضية هو الوضع الداخلي للمحكمة الجنائية الدولية نفسها، التي تمر بفترة حساسة سياسيًا وإداريًا، فالمدعي العام كريم خان، الذي شغل منصبه منذ عام 2021، يتعرض لتحقيق من قبل الأمم المتحدة يتعلق بسلوكيات محتملة قد تمس حياديته، بينما يواصل فريقه القانوني النظر في القضايا المتعلقة بالكيان الإسرائيلي وفلسطين.
وفي غيابه المؤقت، تُلقى مسؤولية اتخاذ القرار في هذا الملف الحساس على عاتق نوابه، ما يفتح الباب أمام احتمالات متعددة، تتراوح بين المضي قدمًا في إصدار المذكرات أو تعليق المسار لحين عودته، ويرى بعض الخبراء أن أي تحرك قضائي كبير دون وجود المدعي العام قد يُنظر إليه كخطوة غير شرعية أو مستعجلة، وخاصة بالنظر إلى التوترات السياسية المحيطة بالملف.
من الجدير بالذكر أن هذه القضية لا تنفصل عن المسار الأوسع الذي تسلكه المحكمة الجنائية الدولية منذ قبولها اختصاصها بالأراضي الفلسطينية في عام 2014، فبعد تسع سنوات من الجدل، أصدرت المحكمة في عام 2024 مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، على خلفية إدارتهم للحرب على غزة، وهي خطوة أثارت ردود فعل غاضبة من الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة على حد سواء.
إذا مضت المحكمة قدمًا في إصدار مذكرات توقيف ضد سموتريتش وابن غفير، فإن ذلك سيُنظر إليه كتصعيد إضافي في مسار المواجهة بين المحكمة والكيان الإسرائيلي، وسيوسّع نطاق الملاحقات القانونية لتشمل ليس فقط جرائم الحرب المباشرة، بل السياسات الممنهجة التي قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، مثل مشروع الاستيطان.
ردود الأفعال الدولية: أمريكا في الواجهة مجددًا
كما هو متوقع، فإن المضي قدماً في هذا المسار قد يؤدي إلى توتر متزايد مع الولايات المتحدة، الحليف الرئيسي لللكيان الإسرائيلي، والتي كانت قد فرضت في عهد الرئيس ترامب عقوبات على مسؤولين في المحكمة، بينهم المدعي العام السابق فاتو بنسودا، عقب محاولات مماثلة للتحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية والأمريكية في أفغانستان وفلسطين.
ومع أن إدارة بايدن أعربت عن رفضها للمذكرات الصادرة بحق نتنياهو، إلا أنها امتنعت عن تكرار سياسات العقوبات، مفضلة الضغط السياسي والدبلوماسي، غير أن تصعيدًا جديدًا من المحكمة قد يُجبر واشنطن على العودة إلى أدوات أكثر قسوة، بما في ذلك فرض عقوبات أو تقييد تمويل المحكمة.
هل ستمضي المحكمة في إصدار المذكرات؟
رغم أهمية التسريبات المتعلقة بسموتريتش وابن غفير، إلا أن قرار المضي قدماً في إصدار أوامر التوقيف ليس محسومًا، فالمحكمة تدرك جيدًا حجم التبعات السياسية التي قد تترتب على خطوة كهذه، وخاصة في ظل الضغوط الهائلة التي تتعرض لها من قوى غربية تدّعي دعم العدالة الدولية، لكنها تقف حائلاً دون تطبيقها عندما يتعلق الأمر بالكيان الإسرائيلي.
في الوقت نفسه، فإن إحجام المحكمة عن المضي في مسارها قد يُنظر إليه كتراجع عن مبادئ العدالة والمساءلة، ويقوّض مصداقيتها، وخصوصًا بعد سنوات من النداءات الفلسطينية والدولية لمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين على خلفية سياسات الاستيطان والتهجير والعدوان.
إذا تم إصدار أوامر توقيف ضد سموتريتش وابن غفير، فإن ذلك قد يشكل سابقة قانونية غير مسبوقة فيما يتعلق بالمساءلة الجنائية عن سياسات الاستيطان، حتى لو لم يتم تنفيذ الأوامر فعليًا في المدى القريب، فإن مجرد صدورها سيلقي بظلال ثقيلة على شرعية المشروع الاستيطاني ويمنح الفلسطينيين أدوات سياسية وقانونية جديدة لمواجهة الاحتلال.
كما أن خطوة كهذه ستُربك حسابات الحكومة الإسرائيلية داخليًا وخارجيًا، وتضع قادة الاستيطان في مرمى الملاحقات الدولية، ما قد يدفعهم إلى التراجع التكتيكي أو البحث عن وسائل لتقنين سياساتهم دون تعريض أنفسهم للمساءلة.
عدالة مؤجلة أم خطوة مفصلية؟
المسار الذي تسلكه المحكمة الجنائية الدولية حاليًا حافل بالمخاطر السياسية، لكنه يمثل أيضًا فرصة نادرة لوضع حد لحصانة استمرت لعقود، إن محاكمة مسؤولين إسرائيليين على خلفية الاستيطان ستكون خطوة تاريخية تعيد الاعتبار للقانون الدولي، وتؤكد أن ارتكاب جرائم في وضح النهار لا يمكن أن يمر دون عقاب، حتى لو تعلق الأمر بدولة تحظى بحماية غير مشروطة من قوى عظمى.
لكن العدالة وحدها، دون دعم سياسي دولي صلب، لا تكفي. فالمعركة ليست قانونية فقط، بل هي سياسية بامتياز، وتكشف عن مدى ازدواجية المعايير في النظام الدولي، حيث يُحاسب الضعفاء ويُعفى الأقوياء.
المجتمع الدولي، وخاصة الدول التي تدّعي احترامها للقانون والعدالة، يقف اليوم أمام اختبار تاريخي، فإما أن يدعم استقلال المحكمة الجنائية الدولية، أو يسهم في تقويضها بصمته أو تواطؤه، وفي كلتا الحالتين، فإن التاريخ سيُسجل من وقف إلى جانب الضحايا، ومن آثر حماية الجناة.