الوقت - في قلب منطقة بيت حانون شمال قطاع غزة، وفي مشهد يتكرر بتكتيكات لا تتكرر، نفذت كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، كمينًا معقدًا أعاد رسم ملامح الصراع بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي.
"كمين كسر السيف" لم يكن مجرد عملية استهداف، بل تجلٍ حيّ لتطور هندسي وتكتيكي غير مسبوق قلب موازين الفهم الاستخباري والعسكري لدى "إسرائيل"، وأثار جدلًا كبيرًا في الأوساط الأمنية والعسكرية.
البداية
في ظهيرة أحد أيام أبريل/نيسان الماضي، استهدفت القسام مركبة عسكرية إسرائيلية كانت تقل ضابطات من كتيبة 414 المتخصصة في جمع المعلومات القتالية، على مقربة من السياج الأمني شرق بيت حانون، صاروخ مضاد للدروع أصاب الهدف بدقة، مخلّفًا إصابات بالغة لضابطة ومجندة.
وسرعان ما تحركت قوة إسناد إسرائيلية بقيادة قائد لواء الشمال في فرقة غزة إلى الموقع، لكنها ما لبثت أن وقعت في كمين ثانٍ عندما انفجرت عبوة ناسفة شديدة الانفجار، أسفرت عن مقتل الرقيب أول غالب نصاصرة (35 عامًا) وإصابة جندي آخر بجروح خطيرة.
ما بدا كأنه هجوم مركّز محدود، سرعان ما تحوّل إلى حدث يكشف عن خلل هيكلي في آلية تعاطي الجيش الإسرائيلي مع بنية الأنفاق المقاومة.
نفق فوق نفق.. سرّ "الطابق السفلي" الذي أربك "إسرائيل"
عقب الكمين، فتحت القيادة العسكرية تحقيقًا موسعًا، لتكتشف ما وُصف بأنه "خرق أمني وهندسي خطير"، فالمقاتلون الذين شنّوا الهجوم، خرجوا من نفق جديد أُنشئ أسفل نفق قديم سبق وأعلن الاحتلال "تحييده"، ما يعني أن القسام كانت تعمل بسرّية تامة على تشييد "طابق سفلي" مموه ومخفي داخل أرضية النفق الأصلي.
تحقيقات جيش الاحتلال أشارت إلى أن هذا النفق السفلي لم يكن مرصودًا عبر الأقمار الصناعية أو الأجهزة الهندسية، بل بني بتقنية جديدة تعتمد على تفريعات داخلية وفتحات سرية لا يمكن رصدها بسهولة، مما مكّن مقاتلي القسام من رصد تحركات الجيش، والتخفي، ثم شن الهجوم والانسحاب عبره دون رصد.
مشاهد القسام
في الـ 21 من أبريل، بثّت كتائب القسام مشاهد مصورة تحت عنوان "كمين كسر السيف"، أظهرت فيها لحظات التنفيذ، بدءًا من خروج المقاتلين من النفق، وانتهاءً بالهجوم على مركبة عسكرية من نوع "ستورم" وانقلابها، ثم تفجير عبوة "تلفزيونية 3" في وجه قوة الإسناد.
كما أظهرت المشاهد إطلاق أربع قذائف RPG وعدد من قذائف الهاون على موقع مستحدث للقوات الإسرائيلية شرق بلدة بيت حانون، في رسالة واضحة على السيطرة الميدانية والقدرة على التنقل وتنفيذ الضربات من النقطة صفر.
تحليل إسرائيلي
المحلل العسكري آفي أشكنازي قال لصحيفة "معاريف" إن هذه الحادثة تجسد العقيدة العسكرية للقسام المبنية على الكمائن، الفخاخ، والصواريخ الموجهة، والانسحاب الذكي عبر الأنفاق، وأضاف إن "الجيش الإسرائيلي يدرك أن حماس لا تبحث عن مواجهة مفتوحة حاليًا، بل تستنزف الجيش وتنتظر ما تسميه المعركة الكبرى".
أشكنازي أكد أن القتال البري في غزة بات أكثر هشاشة وتعقيدًا، وأن المقاومة الفلسطينية أصبحت تراكم المعرفة العسكرية عبر التجربة الميدانية، مستفيدة من أخطاء الجيش وتوقيتات تحركاته.
نفق القسام: ما خفي كان أعظم
وفق مصادر عسكرية نقل عنها موقع "واللا"، فإن القسام لا تبني الأنفاق كما كانت في السابق، بل باتت تعتمد على تشابك هندسي يصعب تفكيكه، يتم إنشاء فتحات داخلية، وأسقف من الخرسانة القابلة للإزالة، ونقاط خروج طارئة، ما يمنح المقاومين هامشًا واسعًا من التمويه والتنقل، ويصعب على جيش الاحتلال اكتشاف النفق الكامل حتى بعد تحييده ظاهريًا.
ضابط هندسي إسرائيلي كبير أعرب عن "ذهوله" من مستوى الإنفاق الذي وظّفته حماس في بناء هذه الشبكات، قائلاً: "كل ما اعتقدنا أننا حيّدناه، قد يكون مجرد سطح لمستوى أعمق وأكثر خطورة".
ماذا يعني الكمين في لحظة الحرب؟
يأتي هذا الكمين في خضم حرب مستمرة منذ أكثر من 19 شهرًا، شهدت تصعيدًا واسعًا في شمال غزة وجنوبها، وبينما تتحدث "إسرائيل" عن محاولات لحسم المعركة ضد حماس، تؤكد الأخيرة عبر عمليات ميدانية كهذه أنها لا تزال تملك زمام المبادرة على الأرض وتحت الأرض.
كما أن عملية موثقة بهذه الدقة تُستخدم كأداة دعائية تعبّر عن "الثقة العملياتية" وتستهدف رفع المعنويات لدى الجمهور الفلسطيني، في مقابل إرباك الرأي العام الإسرائيلي، وطرح تساؤلات حول جدوى العمليات البرية.
"كمين كسر السيف" ليس مجرد عملية نوعية بل هو نقطة تحوّل في فلسفة القتال داخل غزة، فهو يجمع بين التخفي والهجوم المباشر، وبين الرصد والتوثيق، وبين القتال الإعلامي والميداني.
وفيما يتأهب جيش الاحتلال لـ "معركة طويلة"، تبدو حماس قد سبقت إلى بناء معادلة الردع من تحت الأرض، في صمت قد يتحول في أي لحظة إلى عاصفة نار أخرى.