الوقت - بعد تسلم الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" مهام عمله في الـ 20 من كانون الثاني/يناير الماضي اعتقد الكثيرون بأنه سيسعى إلى متابعة المصالح الاقتصادية في داخل أمريكا ومختلف أنحاء العالم بدلاً من الذهاب باتجاه الحروب والنزاعات العسكرية باعتباره شخصية معروفة بتوجهاتها الاقتصادية والتجارية، خصوصاً وإنه تمكن من الفوز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بسبب تركيز حملته الانتخابية على الجانب الاقتصادي والنجاحات الشخصية التي حققها في هذا المجال خلال السنوات الماضية.
وكان معظم من انتخب ترامب يأمل بأن يقوم الأخير بالوفاء بوعوده الانتخابية لتحسين الوضع الاقتصادي في أمريكا وتعزيز العلاقات التجارية مع باقي دول العالم، إلاّ أن الأشهر الثلاثة المنصرمة التي أمضاها ترامب في البيت الأبيض أثبتت أنه يولي اهتماماً للجوانب العسكرية والأمنية أكثر من الجانبين السياسي والاقتصادي.
وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة التي وجهتها المنظمات التجارية العالمية لترامب ودعوتها إيّاه بضرورة التوجه لحل المعضلات الاقتصادية الأمريكية، أصر الأخير على انتهاج ذات السياسة الخارجية التي انتهجها رؤساء أمريكا الجمهوريون السابقون كـ "رونالد ريغان" و"جورج بوش الأب" و"جورج دبليو بوش الابن" والتي تركز بشكل أساسي على القضايا الأمنية والعسكرية.
وما يعزز هذا الاعتقاد هو قيام ترامب في أول خطوة بعد دخوله البيت الأبيض بمطالبة الكونغرس بزيادة الميزانية العسكرية الأمريكية بمقدار 54 مليار دولار للعام 2018، مقابل خفض الإنفاق على بعض البرامج الحساسة مثل التعليم والبيئة والعلوم والفقر، وهو ما أثار جدلاً كبيراً في الأوساط الاجتماعية والإعلامية الأمريكية. وفي حال وافق الكونغرس على هذه الزيادة فستكون إدارة ترامب صاحبة أكبر ميزانية عسكرية في تاريخ أمريكا. وفي أكتوبر المقبل ستصل هذه الميزانية إلى 644 مليار دولار، وهي أكثر بكثير من الميزانيات العسكرية لكل من "روسيا، الصين، الهند، اليابان، كوريا الجنوبية، بريطانيا، وفرنسا" مجتمعين. ويبدو أن هناك هوس يصل إلى حد الجنون لتركيز ترامب على الجوانب العسكرية والأمنية على حساب الجوانب الأخرى لاسيّما السياسية والاقتصادية.
كما تعكس اختيارات ترامب النزعة العسكرية لإدارته في ظل وجود العديد من الجنرالات بينهم وزير الدفاع "جيمس ماتيس" ووزير الأمن الداخلي "جون كيلي" و"هربرت ماكماستر" مستشار الأمن القومي، ما جعل الكثير من المراقبين يعتقد بأن حكومة ترامب تدار في الواقع من قبل العسكر.
وطبقاً لهذه المعطيات لم يعد مستغرباً لماذا شنّ الجيش الأمريكي هجوماً بعشرات الصواريخ من طراز "توموهاك" على مطار الشعيرات السوري دون تفويض من مجلس الأمن الدولي، ولماذا تركز الإدارة الأمريكية على إمكانية شن هجوم عسكري على كوريا الشمالية تحت ذريعة مواجهة برنامجها النووي والصاروخي، ولماذا ألقت القوات الأمريكية "أم القنابل" التي تزن 10 أطنان على أفغانستان بحجة ضرب مواقع "داعش" في هذا البلد، ولماذا تسعى واشنطن لزيادة تدخلها العسكري في اليمن بدعوى محاربة "تنظيم القاعدة"؟!
ومن اللافت أن الإدارة الأمريكية الحالية تسعى لتأمين الكثير من نفقاتها العسكرية من دول أخرى بينها السعودية التي وصفها ترامب خلال حملته الانتخابية بـ" البقرة الحلوب".
ويبدو أن افتقاد ترامب للتجارب السياسية قد ساهم أيضاً بتوجهه أكثر من المتوقع نحو السلوك العسكري والأمني، وساعده في ذلك الفريق الحكومي الذي اختاره لهذه المهمة والتي تعكس في الحقيقة تطلعات الحزب الجمهوري التقليدية في تكريس هذه النزعة وترجيحها كخيار استراتيجي على الحوار والطرق الدبلوماسية لتحقيق أهداف واشنطن الخارجية في شتى المجالات. والدليل على ذلك الجولات والزيارات التي قام بها المسؤولون الأمنيون والعسكريون في إدارة ترامب إلى مختلف مناطق العالم لاسيّما الشرق الأوسط.
وشرق آسيا ليس بعيداً عن المشهد الأمريكي الجديد، ومن ذلك التصعيد العسكري عبر استحضار المدمرات الأمريكية بالقرب من شبه الجزيرة الكورية، وتبدو التطورات مؤجلة بسبب الرفض الصيني لاستعمال القوة ضد بيونغ يانغ، إلاّ أن تصدير الحلول العسكرية على حساب الدبلوماسية السياسية يشوبه الكثير من الوهن، خاصة أن ترامب يتعامل مع زعيم كوريا الشمالية "كيم جونغ أون" صاحب الترسانة النووية.
من هنا يمكن القول بأن خيارات ترامب في تعيين أركان إدارته توحي بأنه أعاد ترتيب الأدوات التقليدية "مجلس الأمن القومي، البنتاغون، وكالة الاستخبارات المركزية، الكونغرس" لتنفيذ الاستراتيجية العسكرية لهذه الإدارة التي يهيمن عليها ذوو الخلفيات العسكرية، مع الإصرار على اللجوء إلى القوة كأداة للحسم كما هو الحال في سوريا وأفغانستان والملف الكوري الشمالي، والذي من شأنه أن يزيد من نسب مخاطر الحروب في العالم، بما في ذلك الحروب العالمية.