الوقت- قام المشروع الصهيوني، على ترحيل اليهود من كافة دول العالم الى الأراضي الفلسطينية. وهو الأمر الذي ترسَّخ على أنه مُعتقد يجمع داعمي الصهيونية من اليهود منذ المؤتمر الأول للمنظمة الصهيونية والذي عُقد في مدينة بازل السويسرية عام 1897، برئاسة هرتزل. لكن الواقع الحالي والذي أصبح نتيجة لتبدُّل الظروف السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط والعالم، جعل من الهجرة نحو الأراضي الفلسطينية أمراً لم يعد من أولويات اليهود. بل إن الهجرة المعاكسة من الكيان نحو العالم، باتت سمة الواقع الديموغرافي في الأراضي المحتلة. في حين تعاني الحكومة الإسرائيلية من أزمة سكان جعلت من المشكلة مزدوجة. فكيف يمكن توصيف واقع أزمة السكان اليهود في الكيان الإسرائيلي بكافة أبعادها؟
مشروع الهجرة نحو الكيان: هدفٌ غير محسوب النتائج
لمواجهة الهواجس الإسرائيلية تسعى الحركة الصهيونية إلى تكثيف حملات الهجرة لجذب نحو 300 ألف يهودي من الأرجنتين وأميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا وإثيوبيا والهند لتوطينهم في فلسطين. فيما تخاف القيادة الإسرائيلية من الصراع الديموغرافي بين اليهود والعرب، حيث رجحت التوقعات الإحصائية الإسرائيلية أن يتزايد التعداد السكاني للعرب إلى درجة تجعل نسبة اليهود أقل من 50% بحلول العام 2020، وذلك إذا استمرت أزمة الهجرة المعاكسة لأسباب تتعلق بتأزم الأوضاع الأمنية والسياسية وتعاظم دور محور المقاومة في مواجهة الاحتلال.
الهجرة المعاكسة: مشكلة تُمثِّل واقعاً آخر
بحسب دراسة صادرة عن مركز "تراث بيغن"، فإن ما يُقارب 60% من اليهود في الكيان الإسرائيلي يفكرون بتقدم طلبات للحصول على للحصول على جنسيات أجنبية. فيما أبدت 77% من العائلات اليهودية تأييدها لخيار سفر أبنائها إلى الخارج. وهنا نُسلط الضوء على عدد من الأرقام المهمة، والتي جاءت في تقرير للمؤتمر اليهودي العالمي عام 2015:
أولاً: منذ بداية القرن الحادي والعشرين، بلغ متوسط الهجرة المعاكسة نحو 20 ألف يهودي سنوياً، فيما يتراجع باستمرار عدد المهاجرين إلى الكيان بحسب التقرير الذي صدر منذ ثلاثة أعوام.
ثانياً: إن عدد اليهود في الكيان الإسرائيلي لم يزد سوى % 2 خلال ربع القرن الأخير. فيما يُلاحظ أن معظم اليهود يعيشون في مختلف بلدان العالم وليس في الكيان الإسرائيلي حيث ما يزال أكبر تجمع لليهود في أمريكا كما لا توجد هناك حملات هجرة ناجحة نحو الكيان.
ثالثاً: إن 30 % من اليهود درسوا بجدية مسألة الهجرة من الأراضي الفسطينية معتبرين ذلك سعياً طبيعياً لفرصة حياة أفضل. وهو ما بدا واضحاً في أعقاب الحرب على غزة عام 2014، حيث ظهر وبوضوح وجود تراجع في الإنتماء الإسرائيلي لفكرة أن "مغادرة الأراضي الفلسطينية هي خيانة وطنية".
كيف تٌشكل الهجرة العكسية أو المعاكسة أزمة للكيان الإسرائيلي؟
أولاً: تًشكل الهجرة اليهويدة المعاكسة أزمة أيديولوجية للكيان الإسرائيلي حيث تناقض أهم الأسس الصهيونية الثلاثة والتي تقوم على ضرورة الهجرة نحو الكيان لدعم مشروع الصهيوينة العالمية.
ثانياً: إن تعاظم هذه المشكلة يعني تعميق التشكيك اليهودي بجدوى وأهمية استمرار المشروع الصهيوني المتجسد بإقامة الكيان الإسرائيلي والذي طالما شكلت الهجرة اليهودية الى الأراضي الفلسطينية أهم أُسسه.
ثالثاً: إن امتلاك الكثير من اليهود المُقيمين في الأراضي المحتلة جنسية مزدوجة زاد من تفاقم المشكلة. حيث تراجع الشعور المحلي بالإنتماء الى الكيان. فيما يحصل وأمام أي ازمة أمنية أو حرب عسكرية قيام أصحاب الجنسيات المزدوجة بالعودة الى دولهم الأصلية وبشكل نهائي.
مشروع زيادة السكان: أزمة أخرى على الكيان؟!
بسبب التخوف اليهودي من حصول تفوقٍ سكاني للعرب والمسلمين في الكيان الإسرائيلي، مضت الحكومة الإسرائيلية في سياسات التشجيع على زيادة الإنجاب. لكن ذلك شكَّل أزمة كبيرة للكيان الإسرائيلي على الصعيدين الإجتماعي والإقتصادي. آخر أرقام مكتب الإحصاء الإسرائيلي تشير إلى أن عدد السكان وصل إلى 8.4 مليون نسمة، ما يعني أن عدد السكان تضاعف 7 مرات منذ احتلالها الأراضي الفلسطينية. حيث يتوزع السكان بين 66 ملايين و300 ألف يهودي، ومليون و650 ألف من العرب. ويتركز معظم السكان في منطقة المركز التي تضم تل أبيب ومدن أخرى محيطة بها. فيما وصل معدل نسبة الكثافة السكانية في الكيان بحسب الإحصاءات الإسرائيليةة 350 شخص في الكيلومتر الواحد، وهو رقم كبير جداً بالنسبة للمعدل الطبيعي. في حين يصل الرقم في بعض المناطق مثل تل أبيب وضواحيها والقدس، إلى 1500 شخص في الكيلومتر الواحد.
الأزمة وتداعياتها
إن الزيادة السكانية وعلى الرغم من كونها هدف لحكومي للكيان الإسرائيلي، إلا أنها تُسبب العديد من التداعيات السلبية الإقتصادية والإجتماعية. والتي يمكن ذكرها في التالي:
أولاً: يُعتبر الكيان الإسرائيلي أنه على الطريق نحو كارثة كبيرة تتعلق بالبيئة والمجتمع. حيث أن العديد من الجوانب الإجتماعية ونمط المعيشة الإسرائيلي بات مُهدداً، لأنه مع ازدياد كثافة السكان يعاني المجتمع من التكدس ويُصبح أكثر ميلا للعنف.
ثانياً: يُشكل هذا الوضع أزمة مالية على الخزينة الإسرائيلية حيث يضع الحكومة أمام تحديات جديدة لم تستطع حتى الآن إيجاد حلول لها، وهو ما يتمثَّل في مستويات التوظيف والمساهمات في أموال الضمان الإجتماعي. فيما شكَّل النمو السكاني المتزايد نقصاً كبيراً في موارد الكيان الإسرائيلي وتحديداً الأرض والمياه، بحسب ما عبَّرت دراسات إسرائيلية.
ثالثاً: كدليل على حجم الخلل وصعوبة المشكلة، قامت الجهات الإسرائيلية باللجوء الى حلول كانت سبباً لأزمات جديدة. حيث وللتخفيف من أزمة المياه استثمرت تل أبيب مليارات الدولارات في محطات التحلية والتي استهلكت كميات كبيرة من الطاقة والأرض. الأمر الذي فاقم المشكلة. كما لجأت إلى تسريع إجراءات الموافقة على تراخيص البناء، مما أوجد مشاكل تتعلق بالبيئة.
إذن، بين أزمة الهجرة المعاكسة والهجرة نحو الكيان، تعاني الحكومة الإسرائيلية من أزمة وجود حقيقية. فالأرض لم تعد تحتمل المزيد من السكان، في حين تراجع الإنتماء اليهودي لمشروع هرتزل الصهيوني. وأمام هذه الحقائق، تعارض مشروع هرتزل الصهيوني مع الواقع الديموغرافي، لشعبٍ لم يعد يجد لنفسه مأوى.