الوقت - كثيرة هي التحديات التي يعيشها الكيان الإسرائيلي. لا نتحدث هنا عن المقاومة الفلسطينية والعمليات البطوليّة التي تقضّ مضاجع المسؤولين الإسرائيليين، ولا نتحدث عن الفشل الإسرائيلي في التأقلم مع المحيط العربي الإسلامي رغم وجود بعض الخروقات، ولا نتحدّث عن صواريخ حزب الله التي تطال كل بقعة في الأراضي المحتلّة رغم التأثير الاستراتيجي لها.
لا نتحدّث عن التحديات الخارجية التي يعيشها الكيان الإسرائيلي، ليس آخرها ما صدر عن رئيس مركز أبحاث الأمن القومي، الجنرال في الاحتياط عاموس يدلين، أن مصلحة "إسرائيل" الإستراتيجية إسقاط الأسد، وهو ما سقط بعد حلب، بل يقتصر بحثنا فقط (وفقط) على التحدّيات الداخلية التي يعيشها الكيان الإسرائيلي. ولنا أن نسأل: هل تختلف التحدّيات التي يعيشها المجتمع(المجتمعات) الإسرائيلي(ة) عن أي مجتمع آخر؟ وهل هناك قدرة على المواجهة الداخلية لهذه التحدّيات؟
لقد اعتاد الكيان الإسرائيلي على الظهور بمشهد القوّة العسكرية مستنداً إلى ترسانة عسكريّة ضخمة، وأقوى سلاح جوّ في المنطقة، إلا أن وضع الداخل الإسرائيلي تحت المجهر، قد يغيّر المشهد كثيراً، إن لم يقلبه رأساً على عقب.
الفقر
يعدُّ الفقر أحد أبرز التحدّيات التي يعيشها الكيان الإسرائيلي، ففي حين تتفوق "إسرائيل" في الجو وتحلق عاليا بصفقات الأسلحة الباهظة، يعاني أكثر من 2.5 مليون على الأرض من الفقر، بينهم مليون قاصر، حسب آخر المعطيات التي نشرتها منظمة "لاتيت" لمحاربة الفقر. وتبين أن 29% من "المواطنين في إسرائيل" يعيشون في ظل الفقر والحاجة. لم يكن تقرير منظمة "لاتيت" يتيماً، بل كشفت تقارير جديدة عن تربّع الكيان الإسرائيلي على عرش الفقر في مجموعة دول التعاون الاقتصادي الـ"OECD" (منظمة اقتصادية دولية يبلغ عدد أعضائها 34 دولة)، الأمر الذي دفع بلجنة العمل والرفاه والصحة البرلمانية للتأكيد أن "ظاهرة الفقر في اسرائيل تتفاقم من سنة إلى أخرى نتاج لنفس سياسة إفقار الفقراء وإغناء الأغنياء التي قادتها حكومات اسرائيل المتعاقبة، وصلت أوجها في ظل حكومة نتنياهو اليمينية المتطرّفة الحالية".
أسباب عدّة تفسر الوضع الاقتصادي الهش، نذكر منها ما قالته المديرة العامة للتأمين الوطني سابقا، إستر دومنسيني، في مقابلة مع صحيفة هآرتس: المشكلة هي أن الحكومة لا تهتم بالفعل. في هذا الاسبوع حصلت الاحزاب الحريدية والبيت اليهودي على إضافة ملياري "شيكل" تم تحويلها إلى المعاهد الدينية من اجل تخليد الحاخامات، والى المستوطنات وتضيف: عندما تذهب الأموال إلى المستوطنات والحريديين (الجماعات الدينية أصحاب القبعات السوداء لا يعملون بطبيعة الحال وتقتصر حياتهم على دراسة التوراة)، فما الغريب أن تكون نسبة الفقر مرتفعة؟
عطفاً على ما سبق، في حين توضح الباحثة الاقتصادية الإسرائيلية في مركز "أور يهودا"، ليئات ليفنات، في تقرير نشرته مجلة "غلوبس" الاقتصادية، إن نسبة انتشار الفقر والجوع بين الأطفال الإسرائيليين هي الأسوأ غربيا، مؤكدة أنها "تلحق العار بإسرائيل"، يشدّد مركز "تاوب" الإسرائيلي للدراسات الاجتماعية والاقتصادية أن حالات عدم المساواة في مستويات الدخل بين الإسرائيليين تعتبر من الأعلى على مستوى العالم!
العنصرية
رغم خطورة الفقر على الداخل الإسرائيلي، إلا أن ما هو أخطر من ذلك العنصرية التي تكوّن عليها المجتمع الإسرائيلي المنقسم بين اليهود الغربيين المعروفين بـ(الأشكناز) ويشكلون حوالي 40% من اليهود، واليهود الشرقيين (السفارديم) الذين يشكلون أكثر من 60% من اليهود في المجتمع.
الخلافات بين اليهود الغربيين والشرقيين أكثر من أن تحصى، إلا أن النهج التحريضي للمؤسسة الحاكمة تجاه الأطفال الإسرائيليين الذين يكتبون على الصواريخ للأطفال العرب، أوجد ثقافة العداء والعنصرية التي ترسّخت أكثر فأكثر مع مرور الوقت، ما دفع بجمعية حقوق المواطن في "إسرائيل" للقول في إحدى تقاريرها: يبدو أن أساس تكوين المجتمع الإسرائيلي هي العنصرية.
ولكن، كيف يصبح المشهد إذا ما اجتمع الفقر والعنصرية في إناء واحد! تشير تقارير أصدرتها مؤخرا منظمة الطفولة التابعة للأمم المتحدة "يونيسيف"، أن الكيان الإسرائيلي هو الأسوأ غربيا من ناحية عدم المساواة بين الأطفال، موضحاً أن الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الأطفال خلال العقد الأخير هي الكبرى بين 41 دولة.
فساد ولا مجتمع
يعد الفساد الاقتصادي والأخلاقي من أبرز تحدّيات المجتمع الإسرائيلي، خاصّة أن هذه الظاهرة قد تضاعفت بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة بدءاً من الرئيس السابق موشيه كاتساف مروراً بنتنياهو الذي سيخضع لتحقيق جنائي بعد موافقة المستشار القضائي للحكومة، وصولاً إلى عشرات الجنرالات والضباط في الجيش والأجهزة الأمنيّة.
لا يقتصر الفساد على الطبقة الحاكمة بل توضح الكاتبة الصهيونيّة "ياعيل دايان" (ابنة وزير الدفاع الأسبق موشيه دايان) في كتاب "وجه المرآة" الذي يتطرّق للفساد الأخلاقي في المجتمع الإسرائيلي مشيرةً إلى أن التجمع الاستيطاني غارق في الفساد والانحطاط حتى أذنيه، كما أن أطفال المستعمرات وهم الأطفال اللقطاء الذين يترعرعون في بيوت خاصة على نفقة الحكومة بعد أن تخلى آباؤهم وأمهاتهم عنهم. ليس ذلك فحسب بل تضيف: "الفتاة الإسرائيلية تستطيع أن تعيش مع أربعة وأن تعاشر عشرين، ولا يجوز أن يتشاجر اثنان من أجلها.. نحن نعيش اشتراكية كاملة مطلقة".
الهجرة المعاكسة
قد تصرف السلطات الإسرائيلية النظر عن الفقر والعنصرية والفساد لأسبابها الخاصّة، إلا أن ما يقلق الإسرائيليين اليوم أكثر من أي وقت مضى هي الهجرة المعاكسة فقد أوضحت دراسة صادرة عن مركز تراث "بيغن"، أن 59% من اليهود يفكرون بالتوجه إلى سفارات أجنبية لتقديم طلبات للحصول على جنسيات أجنبية، بينما أبدت 78% من العائلات اليهودية دعم أبنائها الشباب للسفر إلى الخارج.
ورغم أن دعوة اليهود للهجرة إلى فلسطين المحتلة كانت ولا تزال من أبرز أولويات الاستراتيجية الاستعمارية الصهيونية منذ العام 1948، وهي دعوات قد ارتفعت في السنوات الأخيرة، إلا أنّها لم تلق آذاناً صاغية من أقصى أوروبا الشرقيّة إلى أقصى أمريكا الجنوبيّة.
يعد المال والنفوذ والنساء والعنصريّة أهم الأسلحة التي استخدمها الكيان الإسرائيلي في إقامة كيانه، وفق دراسة للباحثة دانييلا رايخ نشرت ملخصها صحيفة هآرتس، إلا أن المشهد اليوم يؤكد أن الكيان الإسرائيلي يتّجه نحو السقوط وللأسباب نفسها.