الوقت - بعد إندلاع الأزمة السورية عام 2011، كان الرئيس التركي الحالي ورئيس الوزراء الأسبق "رجب طيب أردوغان" يراهن على إمكانية إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد من خلال تحالفاته الغربية والإقليمية لاسيّما مع أمريكا والسعودية وقطر، ودعم الجماعات الإرهابية والتكفيرية المتطرفة ومن بينها تنظيم "داعش".
ورغم محاولات بعض الشخصيات التركية ومن بينها رئيس الوزراء السابق "أحمد داوود اوغلو" لثني أردوغان عن الإستمرار بسياساته الرامية إلى التدخل في شؤون الدول الأخرى لاسيّما سوريا والعراق، واصل أردوغان هذه السياسة طيلة السنوات الخمس الماضية، ما أدى إلى دخول تركيا في نفق مظلم إنعكست تداعياته السلبية على الداخل التركي في شتى المجالات السياسية والإقتصادية والأمنية، وقد تجلى ذلك بوضوح في الإنفجارات الكثيرة التي شهدتها البلاد والتي كان من أبرزها الإنفجار الأخير الذي وقع في مطار أتاتورك الدولي بمدينة إسطنبول وراح ضحيته المئات من الأشخاص بين قتيل وجريح، وجرى إتهام تنظيم "داعش" الإرهابي بالوقوف خلفه.
وبدلاً من الإستماع لنصائح الشركاء السياسيين بضرورة تصفير الأزمات مع دول الجوار أصرّ أردوغان على إنتهاج ذات السياسة التي أدخلت تركيا في أزمات كثيرة ومن بينها الأزمة المتعددة الجوانب مع موسكو، وذلك بعد إسقاط المضادات التركية طائرة "السوخوي" الروسية عندما كانت في مهمة لضرب مقرات ومواقع الجماعات الإرهابية في سوريا قبل نحو ثمانية أشهر، والتي أضطر أردوغان أخيراً لتقديم إعتذار رسمي بشأنها إلى نظيره الروسي "فلاديمير بوتين".
كما واصل أردوغان سياسته التي أدت إلى توتر العلاقات مع مصر إثر محاولته التدخل في شؤون هذا البلد من خلال دعمه لحركة الإخوان المسلمين وإعتراضه على إزاحة الرئيس السابق "محمد مرسي" عن السلطة عام 2013 من قبل المؤسسة العسكرية بقيادة الرئيس الحالي "عبد الفتاح السيسي".
ومن الأمور الأخرى التي ضيّقت الخناق على أردوغان أيضاً هي الإنتصارات التي حققها أكراد سوريا على التنظيمات الإرهابية وظهور بوادر للمطالبة بإقامة إقليم كردي في شمال هذا البلد على غرار إقليم كردستان العراق، الأمر الذي تخشاه تركيا كونه يمهد الأرضية لقيام إقليم مماثل في مناطق جنوب وجنوب شرق البلاد ذات الأغلبية الكردية، وهذه المسألة تحظى بأهمية خاصة بالنسبة لأردوغان لأنها تهدد مستقبله السياسي من جانب، وتضع الحجر الأساس لتوسع النفوذ الغربي بقيادة أمريكا في عموم المنطقة من جانب آخر، وهو ما يخشاه أردوغان أيضاً لأنه سيحد من نفوذه السياسي ويحجم في الوقت نفسه من طموحه وحلمه بتشكيل الإمبراطورية العثمانية الجديدة الذي سعى لتحقيقه على حساب دول الجوار لكنه ذهب أدراج الرياح. وبات أردوغان يفكر الآن في كيفية الحفاظ على سلطانه داخل تركيا بعد أن إهتزت أركانه بشكل ملحوظ خلال السنوات القليلة الماضية.
وحاول الرئيس التركي الإلتفاف على هذه الأزمات من خلال إعتذاره لموسكو عن مسألة إسقاط طائرة السوخوي الروسية، والذي تبعه وصول أول طائرة روسية تقل 189 سائحاً إلى مطار إنطاليا في الجنوب التركي، وإبرام إتفاقية لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الإسرائيلي بعد ست سنوات من القطيعة على خلفية الإعتداء على "سفينة مرمرة" ومقتل عدد من نشطاء السلام الأتراك، وتسريب الخارجية التركية في الآونة الأخيرة خبراً عبر صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية مفاده بأن أنقرة قد تقبل ببقاء الرئيس الأسد لفترة إنتقالية قصيرة لستة أشهر، لضمان عدم قيام دولة كردية على حدود تركيا.
وهنا يجب القول إن الحكومة التركية، لم تعد في موقف يؤهلها أن تقبل أو ترفض ليس في الملف السوري فقط، وإنما في ملفات المنطقة بأسرها، بعد أن فشلت هي وكل حلفائها في إسقاط نظام الأسد على مدى خمس سنوات ونصف السنة.
وإذا كانت أنقرة تربط هذا القبول برغبتها في عدم قيام دولة كردية على حدودها تهدد وحدتها الجغرافية والديموغرافية، فإن هذا يعني أنها أصبحت أسيرة الأزمة السورية وليس العكس، وبمعنى آخر أيّ أنها هي التي باتت في حاجة ماسّة إلى مساعدة الأسد في مواجهة هذا التهديد.
وجميع هذه الأمور تعبر عن تراجع أردوغان عن سياساته السابقة بهدف التفرغ لأزمته مع الأكراد التي بدأت تستفحل في الآونة الأخيرة، خصوصاً بعد الإنتصارات التي حققها أكراد سوريا على التنظيمات الإرهابية المدعومة من قبل أنقرة وسيطرتهم على معظم المعابر التركية شمال غرب سوريا، بالإضافة إلى تصاعد المطالبات بالإنفصال من قبل الأحزاب الكردية التركية وفي مقدمتها "حزب العمال الكردستاني" و"حزب الشعوب الديمقراطي".
وأقدمت تركيا على هذه التراجعات بسبب إحساسها بالعزلة أولاً، وخطر التفتيت ثانياً، والإنهيار الإقتصادي ثالثاً، وكذلك إنقلاب حلفائها الأمريكيين والأوروبيين عليها، وتوريطها في العدوان على سوريا الذي أدى إلى مقتل وجرح مئات الآلاف من السوريين، ونزوح نحو خمسة ملايين آخرين إلى مناطق آمنة في داخل البلاد أو إلى دول أخرى.
ويعتقد المراقبون بأن أردوغان بات مضطراً الآن لتصفير أزماته بعد أن وجد نفسه محاصراً بكثير من التحديات على الصعيدين الداخلي والخارجي والتي وصلت حدّاً لم يدع له مجالاً لإختيار أيّ طريق آخر، فإمّا أن تتأجج هذه الأزمات أكثر مما كانت عليها في السابق أو يقوم هو بالتراجع وتصحيح مواقفه الملتوية إزاء غرائمه في الداخل ومع دول الجوار وهو ما حصل بالفعل من خلال بعض الإجراءات التي إتخذتها أنقرة في الآونة الأخيرة.
ويبدو أن سلوك هذا الطريق أمر طبيعي بعد كل المطبات والفشل الذي منيت به رهانات أردوغان طوال الأعوام الماضية، خصوصاً بعد أن شعر بأن أمراً يحاك ضده في الخفاء بين موسكو وواشنطن لتقوية نفوذ الأكراد في سوريا والذي من شأنه أن يمهد السبيل لإقامة حكم ذاتي في مناطقهم، الأمر الذي تعتبره أنقرة بأنه يهدد مصالحها ويشكل خطراً على أمنها على المديين القريب والبعيد، وهو ما لا يحتمله وضعها الهش داخلياً وخارجياً. فالسياسة لا ترحم من لا يحسن التصرف كما يقول العارفون، ومن يخطأ عليه أن يتحمل نتائج أخطائه، خصوصاً في ظل الفوضى السياسية والأمنية والعسكرية التي يشهدها العالم ومنطقة الشرق الأوسط على وجه التحديد.