الوقت - " ألان دي بوتون" أحد المفكرين الأوروبيين الموهوبين، ومن خلال کسر المناخ الفلسفي التجريدي الذي يسود الغرب، سلك طريقاً کان قد سلکه من قبله فلاسفة کثيرون، أبرزهم "شوبنهاور". القصد هو إدخال الفلسفة إلی الحياة، الأمر الذي فعلته "الرواقية" (أتباع زينون الكِتْيومي "Zeno of Citium" في القرن الثالث قبل الميلاد) بأفضل طريقة ممکنة.
"بوتون" في کتابه "في المشاهدة والإدراك" يُخرج من قلب رسوم "هوبر" مفهوماً يطلق عليه تسمية "الفضاء البرزخي". الفضاء البرزخي له عدة سمات رئيسية، فهو ليس مکاناً للإقامة الدائمة وفيه بصيص أمل، يتطلع إلى المستقبل، وينتابه الشك والخوف. وفي هذا الفضاء فإن قرارنا يمكن أن يُفهم من خلال الآلاف من الأحداث، ليكون قادراً على تشكيل تصرفنا في المستقبل.
منذ سنوات والأكراد في كردستان العراق قد اتخذوا من مفهوم ما ذريعةً لإنهاء العيش تحت العلم العراقي، وبذلوا في نفس الوقت جهوداً للخروج من هذا الوضع. فهُمْ يتحدثون عن الاستقلال، أي ذلك الفضاء البرزخي "البوتوني" الذي ينظرون إليه في الوضع الحالي نظرة الشك والريبة، ويريدون الخروج منه. لا يمكن القول بشکل مطلق إن الأکراد يسيرون نحو مستقبل مثالي، أو يُغرقون أنفسهم في نار الحروب الدامية التي تنجم عن حكومة جديدة، كما قال "ريتشارد تيلي" إن الحكومات تخرج من قلب الحروب والدماء، وهذه حقيقة تاريخية.
هذا الفضاء البرزخي الذي يسود كردستان العراق، لن يكون دائماً، ذلك أن قرار الاستقلال سيجري تفعيله في يوم من الأيام، وأن القادة والسياسيين والأحزاب والتيارات ستتخذ القرار يوماً ما بشأن العودة إلى الجحيم الذي هُمْ أنفسهم يکرِّرونه حول العراق، والذي وصلت نيرانه إلی الأكراد أيضاً، أو الذهاب إلى الجنة التي يتحدث عنها القادة الأكراد. هذا الفضاء البرزخي فضاءٌ مثالي، لأن الأكراد العراقيين أو حكومة إقليم كردستان العراق، مثل العديد من الحكومات الإقليمية التي كانت يوماً ما في الوضع نفسه، واليوم أسَّست حكوماتها، على الرغم من أن العديد منها تعيش أوضاعاً مفلسةً ومحبطة وسقيمة، ستتخذ القرار النهائي للخروج من هذا الفضاء مع بصيص من الأمل.
فهل الحكومة المستقبلية ستکون المدينة الفاضلة التي يتحدث عنها الزعماء، أو ستكون الجحيم الذي يرسمه منافسو الأكراد وأعداؤهم؟ سيکون هذا السؤال برسم المستقبل وأحداث الشرق الأوسط والعراق غير المتوقعة.
في الوقت نفسه يتطلع الأكراد إلی المستقبل، وفيهم خوف دائم من الوضع الداخلي في الإقليم ومشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية. کما الخوف من التنافسات الداخلية والحزبية، وعدم التماسك الذاتي والموضوعي لبناء مستقبل قد يكون غامضاً. وکذلك الخوف وعدم اليقين من فعل ورد فعل القوى داخل العراق والدول المجاورة له، والتي تنظر إلی استقلال كردستان العراق نظرة التهديد والريبة بلا شك.
وهذا الأمر قد يثير التوترات الحزبية في الإقليم، بأن الحكومات الإقليمية ستعرقل آمال الأكراد في بناء دولتهم، أو الأكراد أنفسهم في الداخل، وحول الوضع الداخلي للإقليم والمشاكل التي يعاني منها أي القيادة، الفساد السياسي والضغط الاجتماعي، يشعرون بقلق تجاه التهديد الذي يتمثل في الدخول في فترة طويلة من الحروب الأهلية الدامية. لكن الأمل لا يزال هو المبدأ الأول للمجازفة حول المستقبل، وعلى حد تعبير "باسكال" فهذا رهانٌ مرتبط بالإيمان مثل الشؤون الدينية بالضبط، لأننا نجهل المستقبل تماماً.
إن الأكراد في إقليم کردستان والقادة والسياسيين والشعب العراقي، كلهم يعيشون في فضاء برزخي "بوتوني"، ولعل المبدأ الأول لهذا الوضع هو الجمع بين الخوف والأمل. وهُم في هذا الوضع يواجهون خيارات محدودة ولكن حاسمة، وأي خيار سيتم اعتماده، سيؤثر کثيراً علی مستقبل الأکراد. ويبدو أن هذا القرار يسير في الاتجاه الذي لا يمكن التراجع عنه. فسکان إقليم كردستان يؤيدون هذا الاستقلال لاشعورياً، ولكن يجب أن نرى كيف يتحوَّل هذا الأمر اللاشعوري إلی أمر عقلاني، ويُظهر نفسه في فضاء واعٍ وحتی فعليّ.
هذا المصير الغامض هو السؤال الذي يُشغل بال الجميع، ولكن في الشرق الأوسط، فإن الخبير في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، لا يستطيع التنبؤ بالأحداث على أساس الاتجاهات التاريخية، لأن الأحداث في هذه المنطقة، دائماً ما تغيِّر كل الاتجاهات والقرارات معها.