الوقت- من المعلوم إن القدرات السياسية والميدانية التي تملكها أمريكا والدول الحليفة لها في المنطقة والداعمة للإرهاب وفي مقدمتها تركيا وقطر والسعودية ليست بالمستوى الذي يمكنها من تغيير موازين القوى لصالحها في سوريا أو فرض شروط خلال مفاوضات جنيف لتسوية الأزمة في هذا البلد.
ولهذا السبب لازالت هذه المفاوضات تراوح مكانها وتدور في حلقة مفرغة على الرغم من إتفاق أمريكا وروسيا على مواصلة هذه المفاوضات خلال الأيام القادمة على أن يستمر إيصال المساعدات الإنسانية إلى النازحين والمناطق المتضررة من العمليات العسكرية في ظل الهدنة المتفق عليها وكذلك إبقاء موضوع "الحكومة الإنتقالية" على جدول أعمال المفاوضات كما حصل في الإجتماعات السابقة.
وتدرك كل أمريكا والسعودية وتركيا وقطر جيداً أنه ليس بمقدورهم الآن القيام بأي تحرك عسكري في سوريا من شأنه أن يرجح الكفة لصالح الجماعات المسلحة المدعومة من قبل هذه الأطراف التي تسعى في الوقت ذاته للحفاظ على هذه الجماعات والمناطق التي تقع تحت سيطرتها لتحقيق عدّة أهداف عسكرية وسياسية يمكن الإشارة إلى بعضها على النحو التالي:
1- تقوية الإرتباط بين الجماعات الإرهابية من خلال التأكيد على ضرورة الحفاظ على وقف إطلاق النار لمنح هذه الجماعات فرصة كافية لإلتقاط الأنفاس من وطأة العمليات العسكرية التي تشنها القوات السورية وقوات الدول الحليفة لها لاسيّما إيران وروسيا بالإضافة إلى قوى المقاومة وفي مقدمتها حزب الله ضد هذه الجماعات، خصوصاً في حلب وأدلب وحمص وحماه والغوطة الشرقية بريف دمشق.
2- مواصلة إرسال الأسلحة والمعدات والذخيرة العسكرية إلى الجماعات الإرهابية ومن بينها صواريخ (تاو) المضادة للدروع والصواريخ المضادة للطائرات وقذائف المدفعية. وتشير بعض التقارير الميدانية إلى وصول مئات الحاويات المحملة بالأسلحة والذخيرة من حدود تركيا وبعض المعابر الحدودية مع الأردن إلى الجماعات الإرهابية في الآونة الأخيرة.
3- التأثير على إستعدادات الجيش السوري في عدد من المحاور لاسيّما في حلب وشمال حماه من خلال تنفيذ الجماعات الإرهابية لعمليات عسكرية في هذه المحاور.
4- زيادة عدد القوات الأمريكية الخاصة وقوات الدول الموالية لها في شمال سوريا لمساعدة الجماعات الإرهابية في شن هجمات على القوات السورية والقوات الحليفة لها في المستقبل خصوصاً في مناطق التماس بين الجانبين.
5- مواصلة الطلعات الإستطلاعية التي تقوم بها الطائرات من دون طيار التابعة لأمريكا والدول الغربية الحليفة لها والجماعات الإرهابية ومن بينها ما يسمى بـ "جبهة النصرة" لمراقبة تحركات الجيش السوري وقوى المقاومة في مناطق الصراع بهدف عرقلة أو تأخير عمليات مكافحة الإرهاب في المستقبل.
6- تقوية الموقف السياسي للجماعات المعارضة المشاركة في مفاوضات جنيف لاسيّما التي تسميها واشنطن بـ "المعارضة المعتدلة" خصوصاً بعد تلويح وزير الخارجية الأمريكي "جون كيري" خلال زيارته الأخيرة إلى الرياض بإمكانية إستئناف العمليات العسكرية من قبل الجماعات الإرهابية في سوريا في حال فشل المفاوضات، بالإضافة إلى تأكيد وزير الخارجية السعودي "عادل الجبير" على مواصلة دعم هذه الجماعات بأسلحة متطورة وذات قدرة تخريبة عالية في حال بقاء الرئيس السوري بشار الأسد على رأس السلطة في هذا البلد.
7 - تأكيد المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا"ستيفان دي ميستورا" في ختام الجولة الثانية من محادثات "جنيف 3" بأن حل الأزمة السورية سيتسغرق وقتاً طويلاً، يوحي بأن الإدارة الأمريكية تسعى في الوقت الحاضر لإبقاء الهدنة في سوريا على حالها ودعم ما تسميه "المعارضة المعتدلة" من أجل الحفاظ على الجماعات الإرهابية من جهة، وتركيز جهودها على المفاوضات السياسية من جهة أخرى، ليس من أجل التوصل إلى تسوية للأزمة؛ بل لتحقيق مكاسب غير قانونية عن طريق هذه المفاوضات.
من خلال هذه المعطيات يمكن القول بأن مفاوضات الأزمة السورية المقبلة في جنيف ومحاولة توظيف ظروف الهدنة في هذا البلد من قبل واشنطن تمثل فرصة مناسبة للإدارة الأمريكية من أجل مواصلة تسليح الجماعات الإرهابية من ناحية، وإبقاء المناطق التي تحتلها هذه الجماعات في سوريا تحت سيطرتها لفرض سياسة الأمر الواقع من ناحية أخرى، من أجل تهيئة الأرضية فيما بعد لإثارة مشروع تقسم سوريا أو العودة إلى حالة الحرب من جديد من أجل مواصلة إستنزاف طاقات وإمكانات هذا البلد، وكذلك مواصلة إشغال قوى المقاومة لاسيّما حزب الله عن هدفها الرئيس المتمثل بمواجهة الكيان الإسرائيلي وتحرير الأراضي المغتصبة، وذلك من أجل خدمة المشروع الصهيوأمريكي في الشرق الأوسط الرامي إلى الإستحواذ على مقدرات دول هذه المنطقة ونهب خيراتها والتحكم بمصير شعوبها.
لكن ينبغي القول أن أمريكا تعلم جيداً إن لحرب الإستنزاف مستلزماتها التي لابدّ منها أولاً لإدامتها وإستمرارها خلال الوقت المحدد لها، وثانياً من أجل إحداث ما يتوخى منه من ضغوط. وإنطلاقاً من هذا الواقع وعطفاً على مقتضيات الميدان يبدو أن واشنطن باتت مقتنعة بأن ما تريده من حرب الإستنزاف غير ممكن الحصول بالنظر إلى واقع الحال والمعطيات القائمة حالياً، خصوصاً بعد أن تراجعت قدرات الجماعات الإرهابية إلى حد كبير وعلى أكثر من صعيد.