68 عاماً تمضي على النكبة الفلسطينية، توالت فيها النكبات على الشعب الفلسطيني وكل الشعوب العربية والاسلامية ، في ظل تخاذل معظم الحكومات العربية، ومساعي للتأقلم والنسيان والتنازل عن المقدسات والتطبيع مع العدو الاسرائيلي. واليوم تتجدد النكبة الفلسطينية في ظل الجهود العربية والاقليمية للتحشيد باتجاه اتهام المقاومة بالارهاب وزج الجماعات التكفيرية في حروب وفتن لاشغال الامة عن دعم القدس وانتفاضة الشعب الفلسطيني.
يمثل 15 مايو/أيار عام 1948 الذكرى الأشد ألماً لمعظم الفلسطينيين؛ فمنهم من طردوا من بيوتهم وأراضيهم، وكثيرون منهم قتلوا قبل أن يتمكنوا من الهرب من الموت. وبالرغم من أن المأساة الفلسطينية والنكبة الحقيقة بدأت قبل هذا التاريخ بكثير منذ أن بدأت الهجرة اليهودية المنظمة إلى فلسطين وحرب التطهير العرقي بحق الفلسطينيين، إلا أن المؤرخين اختاروا هذا اليوم الذي أعلن فيه الكيان الصهيوني عن تشكيل دولته المزعومة، ليكون يوم النكبة الفلسطينية، وكأن لسان حالهم يقول أن النكبة باقية ما بقيت الكيان الاسرائيلي.
في ذكرى النكبة تعود إلى الأذهان المجازر المروعة التي ارتبكتها العصابات الصهيونية في القرى والمدن الفلسطينية، لارهاب الناس ودفعهم لترك بيوتهم، حيث تم قتل أكثر من 13 ألف فلسطيني، وتهجير أكثر من 750 ألف وترحيلهم قسراً، وقد قاموا بتدمير أكثر من 531 قرية، وبلدة، ومدينة، وأصبحت الغالبية العظمى من الفلسطينيين لاجئين ومهجّرين؛ نتيجةً الجرائم الصهيونية، وفي بعض الحالات أجبرت العصابات الصهيونية الفلسطينين على التوقيع على أوراق بيع لأراضيهم، حتّى يتبيّن أنّهم غادروا أراضيهم بإرداتهم وليس قسراً عنهم.
وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة فإن 77% من السكان الأصليين لفلسطين تهجروا إلي البلدان العربية المجاورة أثناء النكبة، وتوزعوا في سوريا ولبنان والأردن، إضافة لنزوح عدد كبير إلى قطاع غزة. حيث 67% من سكان غزة هم من الفلسطينيين المهجرين، وماتزال النكبة قائمة إلى اليوم حيث ما يزال أكثر من ثلث الفلسطيين يعيشون في المخيمات بعد 68 عاماً من اللجوء، فيما يسيطر الكيان الصهيوني على 78% من مساحة أرض فلسطين التاريخية، بينما لا يملك الفلسطينيون سلطة فعلية في الضفة الغربية.
وقد لعب الاستعمار البريطاني دوراً تآمرياً كبيراً في تشكيل الدولة الاسرائيلية، بدءاً من وعد بلفور في عام 1916 وصولاً إلى تسهيل دخول العصابات الصهيونية، ودعمها بالسلاح، وتوفير معسكرات التدريب لها، وتسليم مرافق الدولة إلى الصهاينة قبل انسحابهم من فلسطين وإنهاء الانتداب، وقد سارعت الدول الكبرى في العالم إلى الاعتراف "بدولة اسرائيل" واصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يعترف بالدولة اليهودية، أما الفلسطينيين فلا بواكي لهم من قبل الغرب المنافق، ولم تستنهض قضيتهم جمعيات حقوق الانسان، حتى المقاومة التي أبدتها الشعوب العربية في حربهم الأولى مع اسرائيل عام 1948، فقد تعرضت لانتكاسة، وتآمر عليها الغرب مع أتباعهم من الحكام العرب الفاسدين.
ومنذ ذلك الحين والامم المتحدة تصدر القرارات والمبادرات وتطرح الحلول، دون أن يعبأ بها الاحتلال الاسرائيلي، خاصة في ظل الدعم الذي يتلقاه من الولايات المتحدة التي تهيمن على معظم الحكومات العربية، ورغم توقيع عدة اتفاقيات على اختلاف مسمياتها بدءاً من كامب ديفيد الى اوسلو ووادي عربة بالاضافة لجولات الحوار والمؤتمرات الاقليمية والدولية برعاية الحليف الاميركي، لم تستطع أي من هذه المبادرات إعادة حقوق الشعب الفلسطيني، بل على العكس تمادت سلطات الاحتلال في غيها وطغيانها وعدوانها في مصادرة الاراضي الفلسطينية وتهويدها، وبناء المستعمرات وجدار الفصل العنصري وتشديد الحصار على قطاع غزة وشن العدوان عليه، وفصل وعزل سكان فلسطين عن حقوقهم وممتلكاتهم الحيوية اليومية وحرمانهم من التواصل مع عمقهم الاجتماعي الفلسطيني والعربي والاسلامي.
التكفيرييون صورة جديدة للنكبة
في الواقع هذه الجرائم التي ترتكبها اليوم الجماعات التكفيرية في سوريا والعراق، ليست ببعيدة عن تلك التي أرتكبتها العصابات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، بل إنها تتشابه بالاسلوب والمضمون، القائم على التوسع الجغرافي عن طريق الارهاب وارتكاب المجازر والفظائع، ودفع الناس للنزوح وترك أراضيهم. فكل الحكايات المروعة عن الاعدامات الجماعية التي قام بها الصهاينة بحق الأطفال والنساء، وحز الرؤوس وشق بطون الحوامل، ودفن الفلسطينيين أحياء، تتكرر اليوم بصورة أخرى على يد التكفيريين.
وللمفارقة لم يحدث حتى اليوم أن اصطدم مشروع التكفيريين مع المشروع الصهيوني، أو أن تعلن الجماعات التكفيرية عن عمليات لها سواء في العمق الاسرائيلي أو ضد السفارات والبعثات الاسرائيلية في العالم، وهي لم توفر أسواق بغداد أو دمشق أو بيروت أو سيناء وغيرها من الدول العربية الاسلامية من هجماتها. بل أن الكيان الاسرائيل فتح حدوده لجرحى الجماعات الارهابية، للتداوي في المشافي الاسرائيلية، الامر الذي يحكي عن تنسيق واضح بين الجانبين، ويؤكد أن الارهاب والتكفير نشأ من رحم الصهيونية.
وزيادة في الأسى على الوضع العربي المزري، أن نجد الحكومات العربية تجتمع لتدين المقاومة التي أذلت العدو الصهيوني، وألحقت بها هزيمة تاريخية منذ تحرير جنوب لبنان مروراً بحرب تموز وصولاً إلى الحرب على غزة، حيث وصلت صورايخ المقاومة إلى العمق الاسرائيلي ودفعت مليوني مستوطن اسرائيلي للاختباء في الملاجئ. فبدلا من أن تحظى هذه المقاومة بتكريم الحكومات العربية، نجد هذه الحكومات تتهم المقاومة بالارهاب وتعلن الحرب عليها، وتحشد وتعبئ التكفيريين من كل حدب وصوب، لارتكاب المجازر بجمهور المقاومة، بهدف تركيعها وثنيها عن خيارها في مقاومة العدو الاسرائيلي، الذي لم تعد الحكومات العربية، حتى تلك التي تدعي حماية الحرمين الشريفين وتطبيق الشريعة الاسلامية، تخجل من العلاقة معها.
المقاومة خيار الشعوب المضطهدة
وهنا يقتضي أخذ العبر.. فالاستسلام للارهاب الصهيوني، ساعد قيام النكبة، وسهل على المشروع الصهيوني تحقيق أهدافه التوسعية، وكل مبادرات السلام والهدن مع هذا العدو، واستجداء الأمم المتحدة والدول العظمى المهيمنة على العالم لم تكن في صالح الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، بل زادت من ظغيان الارهاب الصهيوني الذي مازال يرتكب الجرائم بحق الفلسطينيين على مرأى من العالم. وحدها المقاومة استطاعت أن تعيد الأرض والحقوق، وتخلق معادلة للردع، وأثبت العدو الاسرائيلي أنه لا يفهم إلا لغة القوة، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وبفعل المقاومة بدأ العدو الاسرائيلي لأول مرة يتحدث عن تهديد وجودي، وعن هجرة عكسية، وعن تدني الروح المعنوية للمستوطنين والجنود الاسرائيليين، وبقي الأمر على هذا المنوال حتى ظهرت الجماعات التكفيرية التي وجهت أسهم عدائها للمقاومة، وأعطت متنفساً للاسرائيلي.
وكذلك بالأمر بالنسبة للمشروع التكفيري، فالمقاومة هي الخيار الوحيد للقضاء على هذا الخطر، ومن هنا تقتضي ضرورة مواجهة الارهاب التكفيري وعدم الاستسلام له، وعدم الركون إلى كل الادعاءات والمبادرات التي قد تتحدث عن تسوية معه هنا أو هناك، والحذر كل الحذر من التعويل على الأمريكي الذي يحتضن مع الدول المتحالفة معه هذه الجماعات الارهابية، ويعرقل مساعي مواجهتها، بهدف اضعاف المنطقة، والسيطرة على ثرواتها وموروثها الثقافي. فالمقاومة هي الخيار الوحيد في مواجهة ثنائية الصهيونية والتكفير.