الوقت - منذ إندلاع الأزمة السورية عام 2011، وإضطرار مئات الآلاف من السوريين لمغادرة أراضيهم ومدنهم بسبب المعارك بين القوات الحكومية والجماعات الإرهابية، سعت أنقرة لتوظيف هذه القضية لتحقيق أغراض سياسية، خصوصاً بعد دخول الكثير من النازحين إلى الأراضي التركية عبر حدودها الجنوبية مع سوريا.
وبإعتبار أنّ تركيا هي بوابة العبور الأولى للّاجئين بإتجاه أوروبا، سعت أنقرة وفقاً لذلك إلى إستغلال هذه الأزمة كورقة ضغط لتحقيق أكثر ما يمكن من مطالبها.
في بداية الأمر حاولت الحكومة التركية الظهور بمظهر المشفق على هؤلاء النازحين والإيحاء بأن ما تقدمه لهم ينطلق من بواعث إنسانية لا علاقة له بالأمور السياسية أو المصالح القومية أو الفئوية أو الحزبية أو ما شابه ذلك، لكن سرعان ما تكشفت حقيقة النوايا التي كانت تضمرها حكومة أنقرة التي يقودها حزب "العدالة والتنمية" بزعامة رجب طيب أردوغان، خصوصاً بعد إزدياد أعداد النازحين وإضطرار الكثير منهم لمغادرة الأراضي التركية والتوجه نحو الدول الأوروبية.
وكانت أنقرة تتصور أن أعداد النازحين لن يتجاوز الـ 100 ألف نازح لأنها كانت تعتقد في البداية أن الأزمة السورية ستنتهي خلال أسابيع أو أشهر قليلة بإنتهاء حكم الرئيس بشار الأسد على يد الجماعات الإرهابية التي تدعمها تركيا والسعودية وقطر وحلفاؤهم الغربيون وعلى رأسهم أمريكا، ولكن وصل عدد اللاجئين السوريين في تركيا إلى أكثر من 2.5 مليون لاجئ، فيما لا يزال الأسد في السلطة وسط قبول شبه كامل بحتمية أن يكون جزءاً من أيّ حل في سوريا، وأن يكون الشعب السوري وليس أنقرة وحلفاؤها هو الذي يقرر مصيره وفق تصريحات لا لبس فيها آخرها للمبعوث الدولي "ستيفان دي ميستورا".
وفي مطلع خريف 2015، أطلقت تركيا قوارب الموت التي تحمل اللاجئين السوريين عبر بحر إيجه إلى اليونان ومنها إلى دول البلقان وسائر البلدان الأوروبية. وكانت حكومة أنقرة تعرف أكثر من غيرها مَن يُطلق هذه القوارب ومَن يموّلها، وهي حقيقة لا تمت بصلة إلى أيّ بعد إنساني.
وفي نهاية تشرين الأول 2015 تمكن الرئيس التركي من إقناع المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" بتقديم مساعدات بثلاثة مليارات يورو إلى أنقرة لوقف مشكلة تدفق اللاجئين إلى أوروبا. ويبدو أن إفتعال هذه المشكلة كان ضرورة لحزب "العدالة والتنمية" عشيّة الإنتخابات النيابية التي حصلت في الأول من تشرين الثاني 2015، من أجل وقف الحملة الأوروبية على أردوغان بشأن قمع الأكراد والحريات، وإظهار أنَّ تركيا ليست معزولة.
وبعد إسقاط تركيا لطائرة "السوخوي" الروسيّة قرب حدودها مع سوريا في 24 تشرين الأول 2015، وما أعقبها من عقوبات روسيّة إقتصادية موجعة أثّرت على الإقتصاد التركي، سعت أنقرة للخروج من هذا المأزق فعمدت إلى إطلاق الموجة الثانية من اللاجئين إلى الدول الأوروبية التي وقفت مذعورة أمام هذا النوع من الإبتزاز وإضطرت على إثره لعقد قمّة في بروكسل في 29 تشرين الثاني 2015، سعياً للحصول على تعهد من تركيا بوقف تدفق اللاجئين مقابل الحصول على حوافز وإمتيازات إقتصادية وسياسية.
وحاولت تركيا خلال تلك القمة إلى تحقيق مكاسب عدّة من خلال المطالب التي قدّمها رئيس وزرائها "أحمد داود أوغلو" والتي كان الكثير منها لا علاقة له بملف اللاجئين في مقدمتها الحصول على الأموال لتعويض خسائرها الإقتصادية في الفترة الأخيرة بعد العقوبات الروسيّة، والتغطية على القمع الذي تمارسه أنقرة ضد الحريّات التي تجسدت مؤخراً بشكل واضح في إغلاق صحيفة "زمان" والتضييق على جماعة "فتح الله غولن". وتضمنت مطالب أوغلو أيضاً إستئناف مفاوضات العضوية مع الإتحاد الأوروبي، وإلغاء تأشيرة الدخول على المواطنين الأتراك الى منطقة "شينغن" مقابل قبولها بشروط أوروبا فيما يتعلق بأزمة اللاجئين.
هذه المساومات غير الإنسانية كشفت مدى الإستغلال السياسي لورقة اللاجئين لتحقيق أهداف عجزت أنقرة عن الوصول إليها سابقاً بينها الضغط على الدول الأوروبية للتغاضي عن إنتهاك السلطات التركية لحقوق الإنسان والإضطهاد السياسي.
لكن يبدو أن آمال الرئيس التركي بالإنضمام إلى عضوية الإتحاد الأوروبي ستنتهي إلى سراب، وهو ما أكدته تصريحات مفوض الحكومة الألمانية لسياسات حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية "كريستوف ستراسر"، حيث أبدى ردّة فعل شديدة على كل من الرئيس التركي وحكومة حزب "العدالة والتنمية" بسبب إنتهاكات حقوق الإنسان في تركيا.
في هذا السياق أعرب الكثير من المراقبين عن إعتقادهم بأن الإتفاق بين الإتحاد الأوروبي وتركيا بشأن اللاجئين هو نوع من الإستغلال البعيد عن أيِّ مبدأ أخلاقي، مشيرين إلى أن أنقرة تتحرك فقط وفق مصالحها السياسية والإقتصادية على حساب المعاناة الإنسانية لهؤلاء اللاجئين، محمّلين في الوقت ذاته الإتحاد الأوروبي مسؤولية عقد صفقات مشبوهة وغير أخلاقية مع الجانب التركي في هذا المجال.
ولم يعد مفاجئاً بنظر المراقبين أنْ يعمد أردوغان وحزب "العدالة والتنمية" إلى إستغلال أزمة اللاجئين كورقة رابحة لزيادة مصالحهم في مواجهة الإتحاد الأوروبي في وقت يعاني فيه الإقتصاد التركي من إهتزازات متكررة، بالإضافة إلى العمل على التسريع بمحادثات الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي التي تعطلت خلال السنوات الأخيرة، في حين يراهن الأوروبيون من خلال الإتفاق مع أنقرة بشأن هذه الأزمة على تحقيق هدفين هما:
1 - إقناع اللاجئين بأن طلباتهم لن تدرس من أي بلد عضو في الإتحاد الأوروبي، وهذا يعني بالتالي التخفيف من ضغط تدفقات اللاجئين وإيجاد حل ولو مؤقتاً، خصوصاً بعد توالي القرارات الأحادية الجانب التي إتخذتها دول أوروبية في مجال الهجرة واللجوء في الأسابيع الأخيرة.
2 - هدف آخر بعيد المدى، ويقوم على فرضية مفادها أنه في حال التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا، فإن ثمّة إحتمالات قوية لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، بحكم الجوار الذي يسهّل رحيلهم من تركيا، بينما إحتمالات عودة اللاجئين الذين يكونوا قد إستقروا في أوروبا تبدو ضعيفة للغاية.
هذه السلوكيات أثارت إنتقادات واسعة حيث إعتبرها الكثيرون إخلالاً بالقوانين الدولية وتعدياً صارخاً على حقوق اللاجئين فيما يشبه عملية طرد جماعية تتنافى والمواثيق الدولية، حيث تقضي قواعد اللجوء الدولية بعدم إعادة اللاجئ إلى دولة غير قادرة على توفير الحماية اللازمة لهم.
إجمالاً، يمكن القول إن الطرفين التركي والأوروبي يدركان أن مشكلة اللاجئين لن يتم حلّها في إطار ثنائي لا يخلو من المساومات والمقايضات المقيتة؛ بل إنّ الشرط الأول لحل هذه المشكلة، يكمن بإيجاد حل سياسي للأزمة السورية عبر توافق إقليمي ودولي.