علی مر العصور اعتبر الجيش الإسرائيلي العمود الفقري للكيان الصهيوني، بمختلف مركباته المدنية والعسكرية. فکان وفقا لنظر المؤسسین القدماء "المربي" الذي يتم فيه، أثناء الخدمة العسكرية التي تمتد لثلاث سنوات إلزامية، تربیة المجند ليصبح "إسرائيليا بامتیاز"، وفقا للمقاسات الثقافية والتربوية التي وضعت معاييرها قبيل قيام الكيان، وذلك سعیا لجمع الثقافات المختلفة لليهود الوافدين إلى "الکیان الاسرائيلي" الذین يحملون ثقافات مغايرة وأفكار مختلفة وقيم وأنماط حياة متفاوتة کل بحسب الدولة التي جاء منها، لذلك كان للجيش الصهیوني الدور الأساسي في بناء "الأمة الاسرائیلیة الموحدة". فاین اصبح هذا الجیش بعد الاخفاقات المتعددة للحکومات المتوالیة؟
لا تعتبر المؤسسة العسکریة الاسرائیلیة، مثل مختلف المؤسسات العسکریة للدول.بل یصح القول ان الجیش الاسرائیلي کان ولا یزال النواة الاساسیة للکیان، فالمؤسسة العسكرية الاسرائیلیة تقوم بدور مهم في التأثير في وضع الأراضي العربية المحتلة وتحديد الأراضي التي يتم ضمها إلى "إسرائيل"، وطرد العرب من هذه الأراضي. ويضاف إلى ذلك أن الجیش یحتفظ بصلات وثيقة، بهدف التنسيق والمتابعة، مع معظم أجهزة الدولة. وللمؤسسة العسكرية شبكة للعلاقات الخارجية تشمل الاتصالات من أجل الحصول على معلومات أو أسلحة، والقيام بعمليات سرية في الخارج، وتدريب أفراد من الدول النامية على القتال.
وازدادت أهمية الجيش والثقة فيه مع منظومة الضوابط التي زود من خلالها المجتمع الإسرائيلي، ممن خدموا في الخدمة العسكرية خاصة، بان المؤسسة العسكرية منحتهم من الإمكانيات المادية والمدنية، ما دعاهم ليكونوا مؤثرين في مجتمعاتهم، وبقيت هذه الحالة مستقرة في المؤسسة العسكرية، وصار الالتزام العسكري سمة من السمات التي يصبو إليها كل يهودي، فهم "الجيش الذي لا يقهر و الله معهم"، و العواصم العربية باتت تحت رحمتهم ولا راد لقوتهم التي هزمت جيوش العرب في ساعات معدودات.
الا ان احتلال الضفة والقطاع اوجد مقاومة باسلة من الفلسطينيين، وبدات معها حرب الاستنزاف. فبدأت عمليات التسرب والتفلت والتهرب من الالتحاق بالخدمة العسكرية وبدأت تتهاوى أسطورة الجيش الذي لا يقهر وتتهاوى معها نظرية "المربي" وبدأت الشقوق تظهر في جدار الجیش الاسرائیلي. وعزز ذلك الانتفاضة الأولى التي فاجأت المؤسسة العسکریة الإسرائيلية بقدرتها مقابل هشاشة المجتمع الإسرائيلي، مما عمق التسرب والهروب إلى خارج البلاد.
الانتفاضة الأولى والثانية والمعارك التي خاضتها مختلف فصائل المقاومة الفلسطينية، وهزائم الجیش الاسرائیلي المتتالیة علی ید حزب الله عامي 2000 و 2006 تركت شقوقها القوية في نفسیة الشباب اليهودي المكلف بالخدمة العسكرية الإلزامية، وما عادت المؤسسة تستطيع اقناع الصهاینة بنظریة جیشها وامکاناته.
ولا شک ان سیاسات حکومة نتنیاهو الفاشلة کان لها الدور الاکبر في زعزعة استقرار المؤسسة العسکریة الاسرائیلیة وهذا ما اکدته مجموعة من الجنود الإسرائيليين بنشر صورة لبعض رفاقهم مستلقون على الأرض وعلى وجوههم علامات الحزن والانكسار، مع تعليق يقول "نتنياهو الخاسر". وتساءل أحد الجنود مستنكرا عن أسباب التحاقهم بالجيش، وهل التحق به ليكون مجرد لعبة في أيادي السياسيين؟ مضيفا "نتنياهو لا يعرف من هو أو ماذا يريد" معربًا عن أسفه عما فعله نتنياهو بدولتهم. ووصف أحد الإسرائيليين، المعلقين على الصورة، وزراء الحكومة "بالحثالة التي استجابت وأستسلمت للمقاومة"، مضيفًا " عار عليك يا نتنياهو ما اوجدته في شعبك من خيبة أمل ومعاناة من الهزيمة وفقدان الثقة".
ما حدث مع اسرائيل في حرب لبنان الثانية في العام 2006 ما زال يسيطر وحاضرا في عقلية القيادات العسكرية، ومن هذا المنطلق هناك من يتحدث عن تعاظم وارتفاع "حائط الخوف" لدى القيادات العسكرية الاسرائيلية، من أي مواجهة محتملة مع حزب الله في اعقاب العملية العسكرية الفاشلة على قطاع غزة وحجم الخسائر التي لحقت باسرائيل سواء على مستوى قواتها العسكرية أو حالة الخوف التي تسيطر على العمق الاسرائيلي من جنوبه الى شماله.
نقطة اخرى مهمة تشير اليها الدوائر العسكرية في الکیان الاسرائیلي، وهي حقيقة أن الجيش الاسرائيلي فشل في كل استعدادته وتدريباته التي خاضها بناء على الدروس التي استفاد منها في اعقاب اخفاقات الجيش الاسرائيلي في حرب لبنان الثانية، كما ان "التماسك الظاهر" التي تحاول اسرائيل أن تعكسه فيما يتعلق بجبهتها الداخلية، هو تماسك غير حقيقي. ولم تستطع المحاولات الاسرائیلیة اخفاء حجم التسرب من الخدمة الإلزامية فقد کشفت معطيات المؤسسة العسكرية الاسرائیلیة التي نشرتها صحيفة هارتس الصهیونیة، أن شخصا من كل ستة أشخاص لا يتمم مدة خدمته العسكرية حيث وصلت نسبة المتسربين إلى 16% من الذكور و7.5% من الإناث. ووفقا للمعطيات فأنه مع نهاية كل عقد تهبط نسبة المنتسبين للجيش بنسبة 4%. ففي حين كانت عام 1990 74.1%، هبطت عام 2000 الی 70% وفي عام 2010 الی 66.6%، ومن المتوقع أن تهبط عام 2020 الی ما دون 60%، هذا دون حساب المتسربين من الجيش خلال فترة الخدمة العسكرية والتي وصلت إلی 18% عام 2006 و 16% مطلع العام 2014.
اضافة الی ذلک تفشت الازمات النفسیة في الجیش الاسرائیلي فقد ذكرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، أن هيئة الصحة النفسية في الجيش الإسرائيلي كشفت عن وجود حالات "ما بعد الصدمة" لدى مئات الجنود، في أعقاب مشاركتهم في الحروب الأخيرة. وأضافت الصحيفة أن المئات من الجنود الإسرائيليين خضعوا للعلاج والـتأهيل النفسي، بعد أن وجدت لديهم أعراض "صدمة حرب".
هذه المعطيات تضاف إلى الأوضاع الأخلاقية الشاذة التي بدأت تتسرب من معسكرات الجيش والانهيار الأخلاقي في تلک المعسكرات حيث تم ضبط مجندين بتهم تعاطي المخدرات وسرقة الأسلحة من المخازن وبيعها لعصابات الإجرام المنظم، بل ووصل بعض هذه الأسلحة إلى جهات من المقاومة. فضلا عن حالات انتحار بالجملة، أفادت عنها صحيفة "معاريف" على موقعها الالكتروني، بين الجنود خلال أدائهم للخدمة العسكرية، و فشلت العديد من البرامج الارشادیة لتقليصها .
الجیش الذي لا یقهر اذن تصدع من الداخل، لیصبح مهزلة تتحاکی بها وسائل الاعلام باحثة عن سیناریوهات التحدیات التي لطالما استخدمتها "البروباغاندا" الصهیونیة لاخافة المقاومة والتي اصبحت الیوم اضحوکة الاجیال مبشرة بزوال الاحتلال في المستقبل القریب.