الوقت- دخل الإتفاق النووي بالأمس حيّز التنفيذ لتنطوي معه صفحة العقوبات التي أثقلت كاهل طهران طيلة العقود الماضية، إلا أنها عزّزت قدرتها في «الإعتماد على النفس» الذي جعلها في مقدّمة الدول الإقليمية. «الندية الإيرانية» طيلة ثلاثة عشر عاماً أفضت إلى «صفحة جديدة» جاءت ثمرة لسنوات من المفاوضات الشاقة التي اختُتمت في فيينا، سطورها الإقتدار وكلماتها الحوار وحروفها حسن الجوار.
تدرك طهران جيّداً أن إغلاق صفحة العقوبات النووية سيفتح عليها صفحات جديدة من النزاعات والمواجهة مع أمريكا، تبدأ بالصواريخ البالستية ولا تنتهي بالأزمات الإقليمية، لذلك شاهدنا في الآونة الاخيرة رغبة إيرانية في تفضيل الأولوية الإقليمية على التعاون مع الغرب عموماً، وأمريكا على وجه الخصوص.
لم تكن «الصفحة الجديدة» للجمهورية الإسلامية الإيرانية مشابهة لـ«الصفحات المتجدّدة» للعديد من الدول الإقليمية والدولية التي كانت تخسر كل ما تملك إثر توقيعها على الإتفاق مع واشنطن وحلفائها، تماماً كما حصل مع اليابان إثر الحرب العالمية الثانية وصدام حسين إثر إحتلال الكويت، ومصر إثر حرب الـ67. الفارق الجوهري هو خروج إيران منتصرةً من «حرب العقوبات» بعدما كرّست نفسها دولة نووية باعتراف دولي، مما يعني أن لطهران الحق، وفق قوانين الحروب، حصد ثمرات الإنتصار النووي.
فصل الحصاد النووي لا يعني أبداً إنتهاك حقوق الدول، كما تفعل واشنطن، إنما تكريس الحقوق «المستحقّة» رغم أنف واشنطن التي تتحكّم بالعديد من دول المنطقة، وأما في إيران فهناك شعب يؤكد «أننا لن نسمح لـ«الشيطان الأكبر» بأن يفعل معنا، ما فعله مع جيراننا العرب».
الإنتصار النووي يحمل في طياته رسائل دولية تؤكد عزم طهران على حفظ حقوقها المشروعة غير آبهة بكافّة التهديدات، وعن أي جهة صدرت، إلا أنه أيضاً يحمل جملة من الرسائل الإستراتيجية على الصعيد الإقليمي، أبرزها:
أولاً: إن تجربة الإتفاق النووي تشكّل درساً ملموساً وحديثاً عن واقع المواجهة مع أمريكا وكافة دول العالم، بإعتبار أن العديد من الدول ترى المواجهة مع واشنطن بمثابة الإنتحار، فهل كان الأمر كذلك بالنسبة لإيران؟ ألم تحوّل إيران التهديد إلى فرصة؟ وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على قدرة العديد من دول المنطقة، وفي مقدّمتهم سوريا والعراق، العبور إلى شطآن النصر عبر الصبر والتضحية.
ثانياً: إن طهران لم تكن لتصل إلى حقوقها المشروعة لولا إمتلاكها قوّة ردع عسكرية تمنع الأعداء من القيام بأي إجراء عسكري ضدّها كما فعلت واشنطن في أفغانستان والعراق. القاعدة التي تحدّث عنها الرئيس المصري الراحل «جمال عبد الناصر»، «ما أخذ بالقوّة لا يستردّ إلا بالقوة»، تتجلى حالياً بشكل آخر، «ما يُراد أخذه بالقوّة، لا يحافظ عليه إلا بالقوّة»، فطهران عالجت السبب لا النتيجة.
ثالثاً: لم يكن الإنتصار النووي ليحصل لولا وقوف الشعب الإيراني بجانب حكومته، وإصراره على حماية حقوقه النووية وعدم التراجع عنها قيد أنملة. بعبارة أخرى، حتى لو إمتلكت طهران قوة عسكرية لم تكن لتنتصر لولا الدعم الشعبي، وهذا ما يؤكد ضرورة إستناد دول المنطقة في حكمها إلى الشعوب، لا لأمريكا والقدرة العسكرية لأنها لا تدوم وتزول عند أي عاصفة.
رابعاً: إيران توصّلت إلى إتفاق مع أمريكا التي تقف وراء كل المحن التي تعترض طهران، فكيف الحال إذا كان الأمر يتعلق بالدول الإسلامية «الجارة»؟ وما وجّهه ظريف بالأمس في فيينا خير دليل على حسن نيّة إيران تجاه «جيرانها»، عندما قال "الوقت حان ليضع الجميع يدهم بيد بعض خاصة الشعوب المسلمة لتخليص العالم من شر التطرف والعنف"، مؤكداً أن "إيران مستعدة".
خامساً: أثبتت إيران صدقيتها التامّة فيما يخص مشروعها النووي حيث لم تستطع الوكالة الذريّة إدانة طهران أو إتهامها بالسعي نحو مشروع نووي عسكري. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على صدقية طهران في إعلانها ضرورة تعزيز العلاقات مع كافّة دول المنطقة، وعلى رأسهم السعودية التي لن تلبث كثيراً حتى تنتهج مسار واشنطن في الحوار مع إيران، خاصّةً أن أسلوبها الحالي لم يحقّق أي إنتصار سياسي أو عسكري.
ربّما يعتقد البعض أن رفع العقوبات بموجب الإتفاق النووي يعني إنتهاء الصراع القائم بين واشنطن وطهران، إلا أن الواقع والتجربة يؤكدان أن أمريكا في صدد الإنتقال إلى ملف آخر، وعقوبات أخرى، ومقاومة أخرى وصولاً إلى مفاوضات وإنتصار إيراني آخر.