الوقت- تشهد الساحة اليمنية، ولا سيما في جنوب البلاد، تحولات متسارعة تعكس تعقيدات المشهد السياسي والأمني في المنطقة. لم يعد الصراع هناك مجرد نزاع داخلي بين الحكومة المدعومة من التحالف العربي وحكومة صنعاء، بل أصبح ساحة مفتوحة لتنافس إقليمي ودولي تتداخل فيه مصالح السعودية والإمارات، إلى جانب أطراف أخرى مثل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
الأحداث الأخيرة في حضرموت والمهرة، وما رافقها من تدخلات عسكرية وتصريحات سياسية، تكشف عن عمق الشرخ داخل التحالف العربي وتؤكد أن اليمن بات جزءاً من لعبة جيوسياسية أكبر ترتبط بأمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، هذا المقال يحاول تقديم قراءة تحليلية شاملة لهذه التطورات من خلال خمسة محاور رئيسية، تتناول طبيعة الصراع الداخلي، دور القوى الإقليمية، الموقف الدولي، انعكاسات التوتر على الأمن البحري، وأخيراً السيناريوهات المحتملة لمستقبل الجنوب اليمني.
التحولات الداخلية وصعود المجلس الانتقالي الجنوبي
شهد جنوب اليمن خلال السنوات الأخيرة بروز المجلس الانتقالي الجنوبي كفاعل رئيسي في المشهد السياسي والعسكري. هذا المجلس، الذي تأسس عام 2017 بدعم مباشر من الإمارات، استطاع أن يفرض نفوذه على مناطق واسعة من عدن والسواحل الجنوبية، وصولاً إلى حضرموت والمهرة، جذور المجلس تعود إلى الحركات الانفصالية التي طالبت بإحياء دولة اليمن الجنوبي التي كانت قائمة بين عامي 1967 و1990،صعوده السريع خلق معادلة جديدة في الحرب اليمنية، حيث لم يعد الصراع مقتصراً على مواجهة بين الحكومة المدعومة من التحالف العربي وحكومة صنعاء ، بل أصبح متعدد الأبعاد مع دخول المجلس الانتقالي كطرف ثالث يملك أجندة خاصة، هذا التحول يعكس تغير طبيعة الأزمة اليمنية إلى ساحة تنافس إقليمي، ويضع مستقبل وحدة اليمن على المحك، خاصة مع إعلان المجلس خططاً لتأسيس مؤسسات دولة مستقلة في الجنوب.
الشرخ السعودي–الإماراتي وتداعياته على التحالف العربي
رغم أن السعودية والإمارات شكّلتا العمود الفقري للتحالف العربي ضد أنصار الله منذ عام 2015، إلا أن الأحداث الأخيرة أظهرت بوضوح تباين أهدافهما في اليمن. السعودية تسعى إلى الحفاظ على يمن موحد لكنه ضعيف، بحيث يكون خاضعاً لنفوذها ويضمن أمن حدودها الجنوبية، في المقابل، تركز الإمارات على السيطرة على الموانئ وخطوط الملاحة والسواحل الاستراتيجية، وهو ما يفسر دعمها القوي للمجلس الانتقالي الجنوبي، هذا التباين أدى إلى صدامات مباشرة وغير مباشرة بين القوات الموالية لكل طرف، كما حدث في حضرموت مؤخراً. الشرخ بين الرياض وأبوظبي لا يهدد فقط وحدة التحالف العربي، بل يفتح الباب أمام مزيد من الفوضى في اليمن، حيث قد تتحول الساحة إلى مسرح تنافس بين حلفاء الأمس، هذه التطورات تضعف الموقف المشترك أمام حكومة صنعاء، وتزيد من احتمالات تفكك التحالف، الأمر الذي ستكون له انعكاسات خطيرة عل تلك العدزل التي شنت حرباً على اليمن.
الموقف الأمريكي والدولي من تصاعد التوترات
الولايات المتحدة، التي تتابع عن كثب التطورات في جنوب اليمن، عبّرت عن قلقها من تصاعد التوتر بين القوات المدعومة من السعودية والإمارات، تصريحات وزير الخارجية الأمريكي الأخيرة، التي دعت الأطراف إلى ضبط النفس والالتزام بالمسار الدبلوماسي، تعكس رغبة واشنطن في منع تحول الأزمة إلى مواجهة مفتوحة تهدد أمن الملاحة الدولية. كما أبدت الولايات المتحدة دعمها للجهود الدبلوماسية التي تبذلها الرياض وأبوظبي لاحتواء الخلافات، رغم أن هذه الجهود تبدو محدودة التأثير في ظل تضارب المصالح بين الطرفين.
المجتمع الدولي بدوره ينظر إلى الأزمة من زاوية أوسع، إذ يخشى أن يؤدي استمرار الانقسام إلى إضعاف فرص الحل السياسي الشامل في اليمن، ويزيد من معاناة المدنيين الذين يعيشون واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، الموقف الدولي يظل حتى الآن حذراً، يركز على الدعوات لخفض التصعيد، لكنه يفتقر إلى خطوات عملية قادرة على معالجة جذور الأزمة.
البعد الجيوسياسي وأمن البحر الأحمر
جنوب اليمن لا يمثل مجرد ساحة نزاع محلي، بل أصبح جزءاً من معادلة أمنية أوسع ترتبط بالبحر الأحمر ومضيق باب المندب، هذا الممر البحري الحيوي يُعد شرياناً أساسياً للتجارة العالمية والطاقة، وأي اضطراب فيه ينعكس مباشرة على الأمن الدولي، أنصار الله أثبتوا قدرتهم، وهو ما جعل القوى الإقليمية والدولية تنظر بقلق.
في هذا السياق، يبرز دور الإمارات التي تسعى إلى تعزيز نفوذها عبر السيطرة على الموانئ والسواحل، فيما تراقب حكومة الكيان الصهيوني التطورات عن كثب، مدركة أن أي خلل في أمن البحر الأحمر قد يؤثر على مصالحها الاستراتيجية، وجود المجلس الانتقالي الجنوبي كقوة منافسة لأنصار الله في الجنوب قد يُنظر إليه كعامل موازنة، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام مزيد من التعقيد، حيث تتداخل مصالح القوى الإقليمية والدولية في ساحة واحدة.
السيناريوهات المحتملة لمستقبل الجنوب اليمني
المشهد الراهن في جنوب اليمن يطرح عدة سيناريوهات لمستقبل الأزمة، السيناريو الأول يتمثل في استمرار الانقسام بين السعودية والإمارات، ما يؤدي إلى مزيد من الفوضى وتعدد مراكز القوى، وهو ما يضعف فرص الحل السياسي الشامل، السيناريو الثاني هو نجاح المجلس الانتقالي الجنوبي في فرض واقع جديد عبر تأسيس مؤسسات دولة مستقلة، الأمر الذي سيعيد إحياء تجربة اليمن الجنوبي ويضع وحدة البلاد أمام تحدٍ وجودي، السيناريو الثالث يرتبط بقدرة المجتمع الدولي على الضغط لإيجاد تسوية سياسية تضمن مشاركة جميع الأطراف، لكن هذا الخيار يواجه عقبات كبيرة في ظل تضارب المصالح الإقليمية. أخيراً، هناك احتمال أن تتحول الأزمة إلى صراع أوسع يشمل البحر الأحمر، مع دخول لاعبين دوليين مثل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بشكل أكثر وضوحاً. جميع هذه السيناريوهات تؤكد أن مستقبل الجنوب اليمني سيظل رهناً بتوازنات القوى الإقليمية والدولية، وليس فقط بإرادة الأطراف المحلية.
في الختام، الأوضاع في جنوب اليمن تكشف عن أزمة متعددة الأبعاد تتجاوز حدود النزاع الداخلي لتصبح جزءاً من لعبة جيوسياسية معقدة في البحر الأحمر، صعود المجلس الانتقالي الجنوبي، الشرخ بين السعودية والإمارات، الموقف الحذر للولايات المتحدة، والدور الخفي للكيان الصهيوني، جميعها عناصر ترسم صورة مستقبلية مليئة بالتحديات، اليمن اليوم يقف عند مفترق طرق: إما أن يتجه نحو مزيد من الانقسام والفوضى، أو أن يجد طريقاً نحو تسوية سياسية شاملة تعيد الاستقرار إلى البلاد، لكن المؤشرات الحالية توحي بأن الطريق إلى الحل لن يكون سهلاً، وأن الجنوب اليمني سيظل ساحة مفتوحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية في المدى المنظور.
