الوقت- تشهد الساحة السورية في المرحلة الراهنة تصاعداً لافتاً في الخطاب السياسي الدولي الذي يروّج لفكرة “الاستقرار” بوصفه الهدف الأسمى للتحركات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، غير أن قراءة متأنية لمجمل التصريحات والتحركات تكشف أن هذا الاستقرار ليس سوى عنوان فضفاض يُستخدم لتمرير مشاريع تتجاوز مصلحة الشعب السوري، وتتقاطع مع حسابات استراتيجية واقتصادية وأمنية أوسع، فالدعوات المتكررة لدعم الحكم القائم، وتثبيت الأوضاع السياسية، لا تنطلق من حرص حقيقي على وحدة سوريا أو سيادتها، بل من رغبة واضحة في إعادة تشكيل المشهد بما يخدم مصالح القوى الفاعلة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة و"إسرائيل".
الشرع بين الدعم المشروط والارتهان السياسي
تشير المعطيات الواردة في الخبر إلى أن ما يُقدَّم على أنه دعم لاستقرار الحكم ليس سوى أداة ضغط ناعمة تهدف إلى دفع القيادة السورية لتبني سياسات تتوافق مع الرؤية الأمريكية والإسرائيلية، فالحديث عن “منح الاستقرار” يترافق مع مطالب غير معلنة بضرورة القبول بإملاءات خارجية، وتجاهل أولويات الشعب السوري، والانخراط في ترتيبات إقليمية تخدم موازين القوى الجديدة، هذا النوع من الدعم المشروط يحوّل الاستقرار من قيمة وطنية إلى وسيلة ابتزاز سياسي، حيث يصبح بقاء الحكم مرهوناً بمدى التزامه بالرغبات الخارجية، لا بمدى استجابته لحاجات الداخل السوري.
الاستقرار كأداة ضغط لا كحل سياسي
لا يبدو أن مفهوم “الاستقرار” المطروح في الخطاب الأمريكي والإسرائيلي يُراد به إنهاء الأزمة السورية بقدر ما يُستخدم كوسيلة ضغط سياسي ناعمة، فالدعوة إلى تثبيت الأوضاع لا تترافق مع مسار حقيقي لإعادة السيادة أو تمكين القرار الوطني، بل تُطرح كشرط مقابل التنازل عن ملفات سيادية أساسية. وهنا يتحول الاستقرار من هدف وطني إلى أداة تفاوض تُستخدم لإجبار دمشق على القبول بتفاهمات لا تعبّر عن مصالح شعبها، هذا النوع من الاستقرار المفروض يعمّق حالة الجمود السياسي، ويجعل البلاد عالقة بين لا حرب ولا سلام، في وضع يخدم القوى الخارجية أكثر مما يخدم الداخل السوري.
الرؤية الإسرائيلية لسوريا: نفوذ بلا حدود
تكشف التصريحات الإسرائيلية الأخيرة، ولا سيما تلك التي تتحدث عن خطط استيطانية بديلة، عن رؤية استراتيجية بعيدة المدى تجاه سوريا، فـ"إسرائيل" لا تنظر إلى الساحة السورية باعتبارها ملفاً أمنياً مؤقتاً، بل ساحة مفتوحة لإعادة تشكيل النفوذ الإقليمي، الحديث عن الاستيطان، أو عن بدائل للمستوطنات التي أُخليت في غزة، يعكس توجهاً خطيراً نحو تثبيت واقع جديد عبر السيطرة غير المباشرة، واستغلال حالة التفكك الإقليمي لفرض أمر واقع يخدم الأمن الإسرائيلي على حساب السيادة السورية، هذا التوجه يوضح أن "إسرائيل" لا ترى في سوريا دولة ذات سيادة كاملة، بل مساحة يمكن إعادة رسمها وفق مصالحها.
الاستيطان أداة سياسية في إعادة رسم الجغرافيا
الحديث الإسرائيلي المتزايد عن الاستيطان، سواء داخل الأراضي المحتلة أو كبديل عن مناطق أُخليت سابقاً، يعكس تحوّلاً في العقيدة السياسية نحو توسيع النفوذ عبر فرض وقائع ديموغرافية جديدة، وفي السياق السوري، لا يبدو هذا الطرح منفصلاً عن محاولات فرض معادلة أمنية طويلة الأمد، تقوم على إضعاف الدولة المركزية وتحويل المناطق الحدودية إلى مساحات رخوة قابلة للتأثير، فـ"إسرائيل" لا تسعى فقط إلى تأمين حدودها، بل إلى إعادة هندسة الجغرافيا السياسية للمنطقة بما يضمن تفوقها الاستراتيجي، حتى لو كان ذلك على حساب استقرار دول كاملة.
الطموح الأمريكي: النفط وإدارة التوازنات
في موازاة الدور الإسرائيلي، يبرز الدور الأمريكي بوصفه المحرّك الأوسع في المشهد، فالولايات المتحدة، وفق ما تشير إليه المعطيات، تنظر إلى سوريا من زاوية المصالح الاقتصادية والاستراتيجية، وعلى رأسها النفط ومواقع النفوذ في الشرق السوري، ولا يقتصر الدور الأمريكي على الاستفادة المباشرة من الموارد، بل يتعداه إلى إدارة التوازنات الإقليمية، واستخدام الورقة السورية للضغط في ملفات أخرى، ومن هنا يأتي الحرص الأمريكي على بقاء الوضع تحت السيطرة، لا انفجاره ولا حله جذرياً، بما يضمن استمرار القدرة على التأثير وتوجيه المسارات السياسية والعسكرية في المنطقة.
غزة وسوريا: ترابط الساحات وتبدل الأولويات
اللافت في المشهد الراهن هو الترابط الواضح بين ما يجري في سوريا وما يحدث في غزة، فالضغوط الأمريكية التي أدت إلى تراجع بعض الطروحات الإسرائيلية المتعلقة باحتلال غزة، رافقها في الوقت ذاته تصعيد في الملف السوري، وكأن الساحتين تتحركان ضمن ميزان واحد، هذا الترابط يكشف أن الصراع لم يعد محصوراً بجغرافيا محددة، بل بات جزءاً من معادلة إقليمية شاملة، تُستخدم فيها الملفات بالتبادل وفق مقتضيات المرحلة، وفي هذا السياق، يظهر أن سوريا تُستعمل كورقة لتعويض إخفاقات أو تعقيدات تواجهها "إسرائيل" في جبهات أخرى.
تدوير الأزمات وإدارة الصراع بدل حله
أحد أخطر ملامح المشهد الراهن يتمثل في اعتماد سياسة “إدارة الصراع” بدل السعي إلى حله جذرياً. فالولايات المتحدة، ومعها حلفاؤها، لا تبدو معنية بإغلاق الملف السوري بقدر اهتمامها بإبقائه ورقة ضغط قابلة للاستخدام متى دعت الحاجة، ويظهر ذلك من خلال التحركات المتزامنة في أكثر من ساحة، والانتقال من ملف إلى آخر وفق متطلبات اللحظة السياسية، هذه المقاربة تضمن استمرار النفوذ، لكنها تُبقي المنطقة في حالة توتر دائم، وتحوّل معاناة الشعوب إلى مجرد تفصيل ثانوي في لعبة المصالح الكبرى.
استقرار مفخخ ومستقبل معلّق
في المحصلة، يتضح أن الحديث عن استقرار سوريا يخفي وراءه مشروعاً معقداً تتداخل فيه المصالح الأمريكية والإسرائيلية، بعيداً عن أي اعتبار حقيقي لمصلحة الشعب السوري، فالدعم المشروط، والضغوط السياسية، والتلويح بالبدائل العسكرية أو الاستيطانية، كلها أدوات تهدف إلى فرض واقع جديد تُدار فيه سوريا من الخارج لا من الداخل، وبينما يُراد لهذا الواقع أن يبدو كحل، فإنه في جوهره يعمّق الأزمة ويؤجل انفراجها، ويجعل مستقبل البلاد رهينة صراعات إقليمية لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات، وفي ظل هذا المشهد، يبقى السؤال الأهم: إلى متى سيظل الاستقرار شعاراً يُستخدم لتبرير مشاريع لا تمت بصلة إلى تطلعات الشعوب؟
