الوقت – عقب انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات، تراءى للعالم أن فصول المنافسة النووية قد طويت، وأن معاهدات الحظر قد أرست لبنات نظام جديد يشيع السكينة بين الأمم، ويقي الإنسانية شرور الكوارث، لكن سرعان ما تبددت تلك الآمال الزائفة، وها هي رياح التاريخ تعصف بما بقي من أوهام، لتعيد تشكيل المشهد على نحوٍ أشدّ قتامةً.
فقد جاء القرار المدوّي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإصدار أمره باستئناف التجارب النووية، بعد توقفٍ دام أكثر من ثلاثة عقود، كضربةٍ صاعقة، لا تعكس تبدلًا في السياسات الداخلية فحسب، بل تفتح أبوابًا موصدةً نحو سباق تسلح لم يشهد له القرن الحادي والعشرون نظيرًا، قرار ترامب هذا، أشبه بحجرٍ ألقي في بركة العلاقات الدولية، فأحدث موجات ترتد في مختلف أرجاء العالم، تنذر بزعزعة استقراره، وتدفعه نحو دوامةٍ لا قرار لها.
ترامب، في هذه الخطوة الحاسمة، أمر وزارة الحرب بالإسراع في تنفيذ التجارب النووية على قاعدة “المساواة مع القوى الأخرى”، ولم يتوانَ عن إظهار نبرته المتعجرفة حينما قال: “إن أمريكا تمتلك ترسانةً نوويةً تفوق كل ما لدى الآخرين، وخلال ولايتي الأولى، أتممت تحديثًا شاملًا لهذه الترسانة، لقد كنت أكره أن أضطر إلى ذلك بسبب القوة التدميرية الهائلة لهذه الأسلحة، لكن لم يكن أمامي من خيار سوى المضي قدمًا”.
وبالعودة إلى سجل التاريخ، فإن آخر تجربة نووية أجرتها الولايات المتحدة كانت في سبتمبر من عام 1992، عندما انفجر آخر سلاح نووي في موقع نيفادا للتجارب النووية، منهيةً بذلك عقودًا من التفجيرات النووية التي بدأت منذ عام 1945، وشملت أكثر من ألف انفجار في مواقع متفرقة، امتدت بين نيفادا، ألاسكا، والمحيط الهادئ.
ويجدر بالذكر أن ترامب، قبل أشهر قليلة، وفي خضم التوترات المتصاعدة مع روسيا على خلفية الصراع في أوكرانيا، أصدر أوامر بنشر غواصات نووية أمريكية قرب السواحل الروسية، ولم يكد العالم يفيق من وقع هذا القرار حتى أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي أن موسكو قد أجرت تجربةً ناجحةً لسلاح نووي جديد، أطلق عليه اسم “بوسيدون”، واصفًا إياه بـ"إنجاز عظيم".
ورغم شحّ المعلومات حول هذا السلاح الروسي، إلا أن ما تسرب عنه يوحي بمدى خطورته، فهو طوربيد ذاتي القيادة، مزود بمحرّك نووي، وقادر على حمل رؤوس نووية، مصمم ليُحدث انفجارًا هائلًا في أعماق البحار، مولّدًا موجات إشعاعية مدمّرة تُغرق السواحل وتحيلها مناطق غير قابلة للحياة، وقد أكد بوتين أن هذا السلاح يتفوق على أي نظام مشابه في العالم، من حيث السرعة والقدرة على الغوص إلى أعماق غير مسبوقة، مشددًا على أنه عصيّ على الرصد والاعتراض.
وفي سياق متصل، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرًا يعزز مزاعم ترامب حول استعداد منافسيه لاستئناف التجارب النووية، وكشفت الصحيفة عن صورٍ التقطتها الأقمار الصناعية، تُظهر أن الصين تقوم بتجهيز مواقع لإجراء تجارب نووية تحت الأرض، في رسالة واضحة إلى العالم مفادها بأنها على استعداد للردّ بالمثل إذا ما عادت القوى الأخرى إلى هذا النهج.
ردود فعل موسكو وبكين: نذر المواجهة تتصاعد
كما كان متوقعًا، لم تلتزم موسكو وبكين الصمت أمام إعلان ترامب، بل أطلقتا سهام النقد الحاد تجاه قراره المثير للجدل.
فالصين، في ردّها، دعت الولايات المتحدة إلى الالتزام بمعاهدات حظر التجارب النووية، مطالبةً واشنطن باتخاذ تدابير ملموسة لحماية النظام العالمي الخاص بنزع السلاح ومنع انتشار الأسلحة النووية، مؤكدةً أن على أمريكا أن تدرك مسؤوليتها في الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي الدولي وموازين القوى العالمية.
أما روسيا، فقد جاءت استجابتها أشدّ حدةً، حيث حذّر ليونيد سلوتسكي، رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما الروسي، من عواقب وخيمة قد تترتب على هذا القرار الأمريكي، قائلاً: “إن استئناف التجارب النووية الأمريكية، بعد انقطاع دام منذ عام 1992، قد يطلق سلسلةً من الردود المتتابعة، تدفع العالم إلى أتون الفوضى، وتجعل الأمن الدولي رهينةً لعواصف التوتر”.
تحذيرات الخبراء من عواقب القرار الأمريكي
وفي غمرة هذه التوترات الدولية، جاءت أصوات الخبراء لترفع راية التحذير من التكلفة الباهظة لهذا القرار الأمريكي، فقد أشار “إرنست مونيز”، وزير الطاقة السابق في عهد باراك أوباما، إلى أن حتى تجربة نووية استعراضية، لا تُجرى بغرض جمع بيانات علمية، قد تستلزم عامًا كاملًا من التحضير، وتستهلك موارد مالية ضخمة.
أما كوري هيندرستين، المسؤول السابق في الإدارة الوطنية للأمن النووي، فقد أوضح أن استئناف التجارب سيتطلب حفر شقوق عمودية جديدة، وهو إجراء قد تصل تكلفته إلى ما يقارب مئة مليون دولار.
وحذّر بول ديكمان، أحد الخبراء المخضرمين في مجال التجارب النووية، من أن الولايات المتحدة قد تواجه معضلةً في العثور على كوادر تمتلك خبرةً عمليةً كافيةً لإدارة مثل هذه التجارب، وقال: “إن مديري التجارب الفاعلين ليسوا من صنف البيروقراطيين الذين يتقنون العروض التقديمية، بل هم رجالٌ خبروا العمل الميداني وصقلتهم التجارب العملية”.
وفي سياق مشابه، أكد أنكيت باندا، مؤلف كتاب "العصر النووي الجديد" وباحث بارز في مؤسسة كارنيغي للسلام، أن قرار أمريكا باستئناف التجارب النووية سيمنح روسيا والصين ذريعةً لإعادة إطلاق تجاربهما النووية الكاملة، وهي خطوة لم تقدم عليها أي من الدولتين منذ سنوات طويلة، وأضاف باندا: “إن نظام منع انتشار الأسلحة النووية يواجه تحديات وجودية، إذ إن القوى الكبرى، وعلى رأسها روسيا، الصين، والولايات المتحدة، لم تعد قادرةً على الاتفاق على المبادئ الأساسية التي تضمن بقاء هذا النظام على قيد الحياة”.
حرب باردة جديدة بنکهة نووية
قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستئناف التجارب النووية، بعد أن أُسدلت ستائر النسيان على هذا الفصل من التاريخ منذ ثلاثة عقود، لم يكن إلا نذير شؤم ينذر العالم بالعودة إلى أزمنة التوتر والاضطراب، حيث يتعاظم التنافس بين القوى العظمى، وتُستعاد ذكريات الحرب الباردة، ولكن هذه المرة بوهجٍ نووي يُهدد الحياة على ظهر الأرض بأسرها.
أتى قرار ترامب ليُعيد تشكيل معادلة الردع النووي، محاولًا إحياء هيبةٍ أمريكية أفلتت من قبضته، ومعللًا خطوته هذه بحجة “تعزيز الردع وحماية تفوق الولايات المتحدة العسكري”، غير أن ما يختبئ وراء هذا القرار يحمل في طياته رسالةً واضحةً إلى موسكو وبكين، مفادها بأن واشنطن لن تقف مكتوفة الأيدي أمام صعودهما المتسارع في مضمار التسلح النووي وتطوير التكنولوجيا الاستراتيجية.
لقد باتت روسيا والصين في نظر واشنطن أكثر من مجرد خصمين جيوسياسيين، بل تحولتا إلى تهديد مباشر يطال عرش الهيمنة الأمريكية، مع تسارع تطويرهما لترسانتيهما النوويتين، وتصاعد قدراتهما في مجال الصواريخ الباليستية والأسلحة فائقة السرعة، هذه التطورات أثارت هواجس واشنطن بشكل غير مسبوق، وخاصةً في ظل التصدعات التي أصابت معاهدات ضبط التسلح، كمعاهدة “ستارت الجديدة”، والتي تقف على شفا الانهيار نتيجة الصراع المتأجج بين روسيا والغرب بسبب أزمة أوكرانيا.
يرى بعض الخبراء أن قرار ترامب باستئناف التجارب النووية ليس إلا محاولة لانتزاع زمام السيطرة على المشهد الدولي، وإعادة أمريكا إلى عصر الهيمنة المطلقة، حين كانت تُحدد قواعد اللعبة بلا منازع، وتفرض إرادتها على الجميع.
وفقًا لتقرير حديث أصدره معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن الولايات المتحدة تمتلك 5177 رأسًا نوويًا، بينما تضم ترسانة روسيا 5459 رأسًا، في حين يتوقع أن تصل الصين إلى 1500 رأس نووي بحلول عام 2035، إن هذا الكمّ المهول من الأسلحة القاتلة يكفي لطمس وجه الأرض وتحويلها إلى ركام، وإذا ما انطلقت شرارة الحرب بين هذه القوى، فإن عواقبها لن تقتصر على البشر، بل ستطال الطبيعة ذاتها، لتغدو الأرض مرتعًا للفناء، بعد أن كانت مهدًا للحياة.
وسط هذه الظروف العالمية التي تفتقر إلى الاستقرار، يبدو قرار ترامب كأنه صكّ البداية لحرب باردة جديدة، لا تُحسم فقط بالمناورات السياسية، بل تخوضها الدول الكبرى في ميادين التفوق التكنولوجي والردع النووي، سعيًا لاقتناص الهيمنة المطلقة.
وكما كان متوقعًا، لم يمرّ قرار ترامب دون ردود فعل غاضبة من موسكو وبكين، إذ إن أياً منهما لن تقف موقف المتفرج في وجه سياسة أمريكية تعيد فتح أبواب الصراع النووي.
فقد خرج سيرغي شويغو، أمين مجلس الأمن الروسي، بتصريحات حازمة أكد فيها أن بلاده لم تغلق يومًا مواقع تجاربها النووية، وأنها في حالة تأهب دائم لإجراء تجارب جديدة، مشددًا على أن روسيا مستعدة للرد على أي خطوة مشابهة من الولايات المتحدة.
وفي سياق مماثل، ذكّر دميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، بموقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حين قال: “إن روسيا لن تتردد في الخروج من تعليق التجارب النووية، إذا ما أقدمت أي دولة أخرى على ذلك”.
إن هذه المواقف الصريحة التي أطلقتها موسكو، إلى جانب التحركات الصينية، تنذر بأن العالم على أعتاب سباق نووي جديد، قد يكون الأكثر تكلفةً وخطورةً في التاريخ، سباق لن يؤدي فقط إلى زعزعة الاستقرار الاستراتيجي الدولي، بل سيزيد من احتمالات اندلاع نزاعات غير مباشرة بين القوى الكبرى، مهددًا السلم العالمي، ومعززًا فرص التصعيد في ساحات التوتر.
لكنّ هذه السياسة النووية الأمريكية لا تتوقف عند حدود تعزيز قدراتها الذاتية فحسب، بل تمتد إلى تمكين حلفائها الإقليميين بأسلحة غير تقليدية، حيث سمحت واشنطن لدولٍ مثل أستراليا وكوريا الجنوبية بالمضي قدمًا في تطوير غواصات نووية، بهدف خلق منظومة ردع إقليمية تواجه التهديدات المتصاعدة من الصين وكوريا الشمالية.
إن هذه الخطوة، التي تعكس تحولًا استراتيجيًا في السياسة الدولية للولايات المتحدة، تشير إلى رغبتها في تقوية أذرع حلفائها العسكريين ليكونوا خط الدفاع الأول في مواجهة القوى الكبرى، بديلاً عن الحضور العسكري المباشر الذي كان سمة الولايات المتحدة في العقود الماضية.
لكن هذا التحول، المتمثل في استئناف التجارب النووية وتسليح الحلفاء، يحمل بين طياته خطرًا داهمًا قد يطيح بأسس النظام العالمي، فمن جهة، يهدد هذا القرار بإحداث خلل عميق في ميزان القوى بمناطق حساسة مثل شرق آسيا والمحيط الهادئ، ما يُشعل فتيل المنافسة بين القوى الإقليمية ويزيد من احتمالات الصدام.
ومن جهة أخرى، فإن مثل هذه الخطوات تقوّض مصداقية المعاهدات الدولية الرامية إلى منع انتشار الأسلحة النووية، وتهدم الجهود العالمية التي بُذلت لعقود من أجل كبح جماح سباق التسلح، لتصبح هذه المعاهدات مجرد حبر على ورق، بينما يتسابق الجميع نحو امتلاك أدوات الدمار.
عالمٌ على حافة الهاوية
إذا ما مضى العالم في طريق سباق التسلح النووي، فإن البشرية لن تكون بمنأى عن مصيرٍ قاتم. ففي ظل تصاعد التوترات، وانضمام قوى جديدة إلى المعترك النووي، سيتحول التوازن العالمي إلى حطامٍ هشّ، تتقاذفه أمواج الأطماع، ويعصف به جنون القوة، ليُعيدنا إلى حقبة يغلب عليها طابع الشك والريبة، وتنعدم فيها الثقة، وتُهدد فيها السلم العالمي، ويُلقى المستقبل الإنساني في غياهب المجهول.
