الوقت- منذ اندلاع الصراع الأخير في قطاع غزّة، ارتفعت الأصوات التي تتحدّث عن مبادرات بديلة تهدف إلى إعادة ترتيب الأوضاع في القطاع بعد الحرب، ومن أبرز هذه المبادرات ما يُعرف بـ مشروع غزّة الجديدة، وهي مبادرة تُقدّمها أربع فصائل شبه عسكرية تُعارِض حركة حماس، وتُقال إنها تحظى بدعم من الاحتلال الإسرائيلي بالإضافة إلى دعم مشبوه من بعض الأطراف العربية والفلسطينية، هذه المبادرة تُصوَّر على أنها محاولة لإخراج حماس من السلطة الفعلية في غزّة، واستبدالها بهيئة أو إدارة تقنية وبديلة، لكن المعطيات تشير إلى أن هذا المشروع لا يمكن أن ينجح ما لم يُراعَ الدور الذي تمثّله حماس كقوة واقع وحاضرة اجتماعيًا وسياسيًا في القطاع، إذ إن غزّة الجديدة من دون تنسيق أو مساومة مع حماس ستبقى عرضة للرفض والتضارب، وربّما الانهيار أمام واقع السلطة الميداني.
في تفاصيل مشروع غزّة الجديدة، تُشير تحقيقات صحفية إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يدعم أربع فصائل شبه عسكرية تعمل داخل القطاع وتعارض حماس، وتُعدّ هذه الفصائل جزءًا من مشروع مشترك لإزاحة حماس من السلطة، وفق تقرير نشرته شبكة “سكاي نيوز” بتاريخ الـ 25 من أكتوبر 2025، فإن هذه الفصائل تُعدّ جزءًا من مشروع منسّق يسعى إلى السيطرة على مؤسسات القطاع في مرحلة ما بعد الحرب، عبر استثمار الفراغ الأمني والإداري الذي خلّفته المعارك، وتسمي أحد قادة هذه الفصائل، حسّام الأسطل، أن مجموعته ومع قادة آخرين يعملون تحت اسم “غزّة الجديدة” وهدفهم “السيطرة الكاملة على القطاع” بعد إقصاء حماس.
كما يُذكر أن هذه المجموعات تعمل في المناطق التي يُشار إليها بأنها داخل “المنطقة الصفراء” (المنطقة التي لا تنشط فيها قوات الاحتلال على الأرض مباشرة بعد اتفاقات الهدنة) أو خلف خط التماس الأمني، مستفيدة من الترتيبات الأمنية التي تسمح بوجود حزام أمني أو تنسيق من الخلف مع قوات الاحتلال، بالإضافة إلى ذلك، ظهر أن بعض هذه الفصائل تلقت تسليحًا أو تنسيقًا لوجستيًا من جهات مرتبطة باحتلال الأراضي الفلسطينية، مع إدارات استخبارية ترمي إلى تشجيع انشقاقات متوازنة داخل القطاع تخدم إعادة الهيكلة الأمنية، بعض التقارير تفيد بأن رئيس حكومة الاحتلال قد اعترف بأن الاحتلال يعمل على تسليح عائلات “معارضة لحماس” داخل غزّة بهدف إضعاف سيطرة الحركة، كما تُشير التقارير إلى وجود فصيل يُعرف باسم “القوات الشعبية” بقيادة ياسر أبو شَعب أو التشكيلات الشمالية بزعامة أشرف المَنسي، والتي تُعدّ من الفصائل المستهدفة أو المدعومة ضمن مشروع غزّة الجديدة.
تزعم هذه الفصائل أنها قادرة على تقديم بديل إداري وتقني لإدارة شؤون القطاع، بدءًا من الخدمات اليومية وصولًا إلى البنى التحتية، وأنّها ستكون تحت إشراف جهات دولية معينة، مع دور فني وتقني يقوم به “خبراء مستقلون” بعيدًا عن الانتماءات الحزبية، كما يُطرح أن بعض الدول العربية ستساهم في تنسيق الدعم أو الإشراف على مراحل إعادة الإعمار، لكن من الواضح أن هذه المبادرة لا تقدّم نفسها باعتبارها بديلاً عسكريًا فحسب، بل تسعى لأن تكون مشروعًا سياسيًا جديدًا يُحاول أن يُعيد تشكيل البنى الحاكمة في غزّة بعد انتهاء مرحلة القتال.
لكنّ هذا المشروع يواجه تحديات ضخمة من بداياته، أول هذه التحديات هو غياب موافقة حماس أو التنسيق معها، وهي القوّة الأكثر حضورًا وتنظيمًا في غزّة، وتملك شرعية فعلية على الأرض من خلال مؤسسات أمنية وخدمية وعلاقات مجتمعية، فمن دون مشاركة أو تسوية مع حركة حماس، فإن مبادرة غزّة الجديدة ستُواجه رفضًا شعبيًا كبيرًا، وخاصة أن كثيرًا من السكان يعتقدون أن أي إدارة لا تشمل حماس أو لا تحظى بقبولها ستكون غير قادرة على العمل تحت ضغط المقاومة الشعبية، وقد يراها البعض على أنها أداة لفرض هيمنة الاحتلال الإسرائيلي بواجهة فلسطينية جديدة، ليس إلا.
ثاني التحديات يكمن في البُعد الأمني: فالفصائل التي يُقال إنها قادرة على فرض السيطرة قد لا تملك القدرة الكافية على مواجهة التحديات الأمنية الداخلية، مثل الجماعات المحلية، أو العناصر التي لا تزال متمسكة بالاستقلالية، كما قد ينشأ صراع على السلطة بين الفصائل نفسها، وإذا لم تتوافّر قوة مركزية ضابطة وقادرة على الحفاظ على الاستقرار، فقد تتفتت المبادرة إلى مكونات متصارعة، هذا الأمر يُزيد احتمالية نشوب صراعات داخلية إضافية في القطاع المدمّر أصلاً، وثمّة تحذير من أن ما يُسمّى القوة البديلة قد تُستخدم لإخضاع القطاع أكثر أو لتحويله إلى ساحة للصراع الفلسطيني – الفلسطيني.
ثالثًا، الشرعية الداخلية هي عامل حاسم، الإدارة الجديدة عليها أن تكسب ثقة سكان القطاع، وهذا لا يحدث بمجرد فرض قوة، لكنها تتطلب خدمات فعالة وأداء ملموسًا في الوقت الحقيقي، مثل تأمين الكهرباء والماء والصيانة والإنقاذ والإعمار، إذا لم تشهد الأسر والمواطنون تغييرًا في واقعهم، فإنهم سيرفضون المشروع، وقد ينتفضون ضده، أو يدعمون مشاريع موازية تعود إلى حماس أو غيرها، من دون شرعية مجتمعية، يبقى المشروع هشًّا ومهددًا بالانهيار عند أول أزمة.
رابعًا، التمويل والدعم الدولي عناصر حاسمة لا يمكن الاستهانة بها، إنّ مشروع غزّة الجديدة يحتاج إلى موارد ضخمة لإعادة الإعمار، وتأهيل البنى التحتية، وتوظيف الكوادر، وضمان أن الحاجات الإنسانية الأساسية تُلبّى، لكن الدول المانحة غالبًا ما تشترط معايير رقابية وشفافية، وقد ترفض دعم إدارة تُعتبر غير شرعية أو متهمة بالتنسيق مع الاحتلال، في حال عدم حصولها على تمويل كافٍ أو رفض المجتمع الدولي دعمها، ستواجه شحًا ماليًا يعوق تنفيذ المشاريع الأساسية.
خامسًا، تواجُد حماس بقوّتها المتبقية يُشكّل عاملًا موازياً لا يمكن تجاهله، فحتى في سياق اتفاقات وقف النار أو المبادرات السياسية الأوسع، فإن حماس لم تتخلّ عن مطلبها في أن تظل جزءًا من أي ترتيبات مستقبلية، وقد لا توافق على نزع السلاح الكامل أو فقدان دورها السياسي، وقد سبق أن رفضت حماس في مرات متعددة أي شرط بنزع سلاحها كجزء من اتفاق شامل، معتبرة أن هذه الأسلحة تمثل جزءًا من "حق المقاومة"، كما أن الخطة الأمريكية المكونة من 20 بندًا التي وضعتها الإدارة الأمريكية تهدف إلى نزع سلاح حماس وإقامة سلطة مؤقتة تكنوقراطية، لكنها تركت كثيرًا من التفاصيل غامضة، ما يفتح الباب للاعتراضات والتعطيل.
من جهة سياسية، يطرح المحتلّ في هذا السياق أن يبقى له دور أمني خلال المرحلة الانتقالية، وقد يعارض مشاركة بعض الدول أو القوات التي لا تتوافق مع معاييره، مثلاً، رئيس وزراء الاحتلال قال إن الاحتلال سيحدد أي قوات أجنبية مقبولة أو مرفوضة ضمن أي قوة دولية تكون موجودة في غزّة بعد وقف النار. هذا يعكس رغبة الاحتلال في التحكم بعناصر الأمن والتحكّم في مداخل القطاع، وهو ما قد يُقيّد مدى استقلالية الإدارة الجديدة.
حين ننظر إلى هذا الواقع المعقّد، نرى أن مشروع غزّة الجديدة، رغم طموحه في إعادة الهيكلة، قد يكون في المدى القريب مبادرة نظرية أكثر منها خطة قابلة للتطبيق، فمن دون تنسيق حقيقي أو تفاهم جزئي مع حماس، أو على الأقل ضمّ بعض الأجنحة الداخلية منها، لن يستطيع المشروع أن يفرض نفسه كبديل شرعي قادر على الصمود، كما أن قوة ما تُسمَّى البديل المشرفة يجب أن تكون مدعومة بأساس شعبي وتقني ومالي، وإلا فإنها ستواجه مشاكل تبدأ من اليوم الأول، في مجالات الأمن والخدمات وتلقي الدعم الدولي.
في النهاية، إن غزّة الجديدة قد تُمثّل محاولة لتقسيم وصياغة واقع جديد في القطاع، لكنها لا تستطيع استبدال واقع حماس إلا إذا تحوّلت من مشروع مفروض إلى مشروع تفاوضي يُشرك الجميع، ويكسب ثقة الجماهير، ويقدّم بدائل حقيقية في منتصف الطريق، لا أن تُفرض بالقوة، وإذا تم تجاهل هذا الضرر، فإن المبادرة قد تؤول إلى فشل أو تؤدي إلى صراع داخلي جديد في غزّة التي أنهكها الحصار والحرب.
