الوقت- أدان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بشدة التصريحات الأمريكية الأخيرة التي زعمت وقوع عمليات نهب لشاحنات المساعدات الإنسانية في شمال خان يونس، معتبراً تلك الادعاءات محاولة مكشوفة لتشويه صورة الشعب الفلسطيني والمقاومة وصرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية للأزمة الإنسانية الخانقة في القطاع.
وأكد البيان الصادر عن المكتب أن ما نشرته القيادة المركزية للجيش الأمريكي (سنتكوم) ادعاء باطل يفتقر لأي دليل ميداني، ويمثل جزءاً من حملة تضليل إعلامي ممنهجة تهدف إلى حرف الحقائق وتبرئة الاحتلال من جرائمه.
وأوضح البيان أن قوات الاحتلال الإسرائيلي تستهدف عمداً عناصر الشرطة المحلية والمتطوعين في فرق الإغاثة الذين يشرفون على توزيع المساعدات، وذلك بهدف خلق الفوضى والاضطراب داخل القطاع وتسهيل عمليات النهب والسرقة، في محاولة لتغيير صورة الواقع الإنساني وإلصاق التهم زوراً بالفلسطينيين.
محاولة أمريكية لتغيير السردية وتحريف المسؤولية
تشير هذه المزاعم إلى استمرار واشنطن في تبني نهجٍ إعلامي يهدف إلى تبرير مواقفها السياسية المنحازة لإسرائيل. فكلما تصاعدت الانتقادات الدولية ضد الاحتلال بسبب جرائمه في غزة، تلجأ الإدارة الأمريكية إلى أسلوب حرف الأنظار من خلال اتهام الفلسطينيين أنفسهم بخلق الفوضى أو إساءة توزيع المساعدات.
الولايات المتحدة، التي تقدم دعماً سياسياً وعسكرياً واسعاً لإسرائيل، تحاول أن تقدم نفسها في الوقت ذاته كطرف إنساني محايد، متناسية أن دعمها اللامحدود هو أحد أهم أسباب استمرار الكارثة الإنسانية، فهي تتحدث عن الحرص على المدنيين بينما تزود الاحتلال بالقنابل التي تسقط على رؤوسهم.
تأتي هذه الادعاءات في لحظة يعيش فيها القطاع واحدة من أكثر المراحل قسوة منذ بدء العدوان، حيث يعاني أكثر من مليوني إنسان من نقص حاد في الغذاء والوقود والدواء، وسط حصار شامل يمنع حتى دخول المساعدات المحدودة، وفي هذا السياق، يبدو الخطاب الأمريكي الإنساني مجرد أداة سياسية لتبييض صورة واشنطن والتغطية على شراكتها الفعلية في المعاناة.
البعد السياسي والقانوني للأزمة
يؤكد القانون الدولي الإنساني أن حماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية مسؤولية مباشرة للقوة القائمة بالاحتلال، أي "إسرائيل"، ومع ذلك، تتجاهل واشنطن هذه الحقيقة القانونية وتعمل على تبرئة الاحتلال من التزاماته عبر نشر روايات مشوهة.
إن الادعاء الأمريكي بشأن نهب المساعدات ليس سوى محاولة للتهرب من المساءلة الدولية عن الجرائم التي ترتكب يومياً ضد المدنيين، ولصرف الأنظار عن الانتهاكات الموثقة بحق المستشفيات والمدارس وفرق الإنقاذ.
هذه السياسة ليست جديدة على الولايات المتحدة، فقد تبنت مواقف مشابهة في أزمات أخرى مثل العراق وأفغانستان، حيث جمعت بين خطاب إنساني في العلن وممارسات عسكرية مدمرة في الواقع، إنها ازدواجية تسمح لها بأن تتحدث باسم القانون حين يخدم مصالحها، وتتجاهله تماماً حين يُدين حلفاءها.
الأبعاد الإنسانية والأخلاقية المغيبة
في ظل الانقطاع شبه التام للتيار الكهربائي وشح المياه وندرة الغذاء، يعيش سكان غزة واحدة من أقسى الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، ورغم أن واشنطن تكرر خطابها حول القلق الإنساني، فإنها تغض الطرف عن جوهر المأساة: الاحتلال يمنع وصول المساعدات ويقصف فرق الإغاثة، بينما تكتفي أمريكا بإلقاء اللوم على الضحية.
البيان الفلسطيني وضع النقاط على الحروف عندما أوضح أن النهب الحقيقي هو ما يمارسه الاحتلال من حرمان شامل لمقومات الحياة، الطفل الذي يبحث عن شربة ماء، والمريض الذي يموت لعدم توفر الدواء، والأسرة التي تنهار تحت أنقاض منزلها هؤلاء جميعاً ليسوا ضحايا الفوضى، بل ضحايا الحصار المدعوم أمريكياً.
البيان لم يكن مجرد رد على اتهام عابر، بل نداء للعالم ليتحمل مسؤوليته الأخلاقية والقانونية تجاه معاناة المدنيين، وتأكيد على أن استمرار الصمت الدولي يعني مشاركة ضمنية في الجريمة.
الحرب الإعلامية وتزييف الواقع
تعتمد الولايات المتحدة منذ سنوات على أدوات إعلامية قوية لتوجيه الرأي العام العالمي، وتعمل على إدارة سردية الصراع بما يخدم مصالحها وحلفاءها. من خلال البيانات الرسمية والتقارير الموجهة، يتم تقديم الفلسطينيين وكأنهم عقبة أمام توزيع المساعدات، بينما يتم تغييب المشهد الحقيقي المتمثل في الدبابات التي تمنع القوافل الإنسانية والمعابر المغلقة بقرار عسكري.
هذه الحرب الإعلامية ليست عشوائية، بل تأتي ضمن ما يُعرف بـ العمليات النفسية الرامية إلى كسر إرادة الصمود الفلسطيني وتشويه صورة المقاومة أمام المجتمع الدولي. ومع ذلك، فإن شهادات الميدان والتقارير الصادرة عن المنظمات الإنسانية الدولية تكشف زيف هذه الروايات، مؤكدة أن السبب الجوهري للأزمة هو الحصار والعدوان، لا الفوضى الداخلية.
ما بين الخطاب الإنساني والحقيقة الميدانية
إن ازدواجية المعايير الأمريكية في التعامل مع الأزمات الإنسانية في غزة تمثل نموذجاً صارخاً للنفاق السياسي الدولي. فواشنطن التي تتحدث عن الإنسانية هي نفسها التي تزود الاحتلال بالأسلحة وتمنحه الغطاء الدبلوماسي لمواصلة حصاره وعدوانه. إنها لا تسعى إلى إنهاء الأزمة، بل إلى إدارة صورتها داخلها.
البيان الفلسطيني الأخير يعكس صوت المظلوم الذي يطالب العالم بالنظر إلى الحقيقة لا إلى روايات القوة. فما لم يتغير هذا النهج، سيبقى الخطاب الأمريكي عن القيم الإنسانية شعاراً أجوف يُستخدم لتبرير الجرائم، وسيبقى سكان غزة يدفعون ثمن ازدواجية السياسة العالمية التي فرّقت بين من يُعان ومن يُدان.
إن المأساة في غزة اليوم ليست فقط مأساة حصار وتجويع، بل مأساة ضميرٍ عالمي تراجع أمام المصالح، وترك الإنسانية رهينة الحسابات السياسية.
