الوقت- في خضم سحب الدخان والدماء، استحال جنوب لبنان مرةً أخرى مسرحاً للوغى وميداناً للنزال، ثمانية أشهر انصرمت منذ اتفاق وقف إطلاق النار في شباط الماضي، بيد أن صمت الأسلحة لم يُكتب له البقاء إلا على صفحات المعاهدات، ما برحت طائرات الكيان الصهيوني تمزق أديم السماء اللبنانية، وتُذيق قاطني الحدود مرارة الخوف، وتبذر في ليلهم بذور الفزع والهلع.
وفق ما أفصحت عنه وزارة الصحة اللبنانية، أزهقت الغارات الجوية الإسرائيلية على شرقي لبنان وجنوبه أرواح أربعة أشخاص على أقل تقدير، في أحدث خرق سافر لاتفاق وقف إطلاق النار.
وكشفت الوزارة أن قرابة مئتين وسبعين شخصاً فارقوا الحياة منذ بدء سريان وقف إطلاق النار جراء الاعتداءات الإسرائيلية، بينما نحو ثمانمئة وخمسين آخرين تحت وطأة الجراح، وأبانت ثمين الخياط، الناطق باسم الوزارة، أن مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أكد حتى التاسع من تشرين الأول أن مئة وسبعة من الضحايا كانوا من المدنيين العزل، وفي الشهر المنصرم وحده، ارتقى تسعة لبنانيين على الأقل إلى مراتب الشهادة إثر غارات جوية متتالية شنها الكيان الصهيوني.
في إحدى تلك الغارات، استهدفت نيران العدوان مركبةً تقلّ أسرةً في بنت جبيل تعود لتاجر سيارات، فحصدت أرواح ثلاثة من فلذات كبده، من بينهم توءمان لم يتجاوزا من العمر ثمانية عشر شهراً.
وبعد أيام معدودات، أغارت طائرات الکيان على مصنع للإسمنت ومحجر للحجارة، متذرعةً بأن حزب الله يعتزم الاستفادة منهما لإعادة بناء بنيته التحتية، فعلٌ يكشف بجلاء عن استراتيجية تل أبيب الرامية إلى تقويض البنى التحتية اللبنانية، واستنساخ مأساة غزة في ربوع لبنان.
لم تقتصر انتهاكات وقف إطلاق النار على الغارات الجوية فحسب، بل كما أماطت كانديس أرديل، الناطقة باسم قوات اليونيفيل، اللثام عن رصد نحو تسعمئة وخمسين قذيفة انهمرت من أراضي الكيان على لبنان منذ السابع والعشرين من تشرين الثاني 2024 حتى منتصف تشرين الأول 2025.
رماد يخفي تحته جمراً متقداً
في أروقة العاصمة، يتكئ جوزيف عون ونواف سلام على وسائدهما الوثيرة، يرنوان بأبصارهما إلى سراب السلام الذي لا وجود له إلا على موائد المفاوضات، وعدوا الشعب بأن تجريد حزب الله من سلاحه وإقصاء المقاومة، سيكون مفتاح الحل السحري لمعضلات لبنان، لكن ها هو اليوم يقف شاهداً على زيف وعودهم: فلا الأمن استتب، ولا الاقتصاد انتعش، ولا خطوة جادة اتخذتها الحكومة للإسراع ببرنامج إعادة إعمار ما خلفته الحرب من دمار.
هذا الإخفاق الذريع في الخطاب السياسي وخيبة الأمل التي عصفت بالرأي العام من نجاعة الحكومة الجديدة وقدرتها على الوفاء بوعودها، دفعت نواف سلام، ذلك السياسي المخضرم الذي استحال اليوم وجهاً متطرفاً في عداء المقاومة، إلى الاعتراف في أحدث تصريحاته بملامح يكسوها الانكسار: “إن فتح قنوات الدبلوماسية والسياسة لإرغام إسرائيل على الالتزام بالاتفاق، لم يجد نفعاً ولم يؤت ثماره.”
إقرار بالهزيمة وانكسار الإرادة
هذه الكلمات، في جوهرها، إقرار صريح بهزيمة استراتيجية الدولة اللبنانية، تلك الاستراتيجية التي روجت لها واشنطن وحلفاؤها، وأغدقوا الوعود بأن الحكومة اللبنانية، بممارسة الضغط على حزب الله وتنحية المقاومة جانباً، ستفتح أبواب الرخاء على مصاريعها أمام لبنان، لكن ها هو اليوم يقف شاهداً على أن "إسرائيل" لم تكتف بنقض اتفاق وقف إطلاق النار، بل ما زالت تتشبث بخمس نقاط محتلة في جنوب لبنان وترفض الانسحاب منها.
كلمات سلام تنضح بمرارة الحقيقة: "لم تلتزم إسرائيل باتفاق وقف الأعمال العدائية، في حين لم يبادر لبنان طوال هذه الفترة بأي عمل عسكري ضد إسرائيل"، هذا يعني أن لبنان، بتنحية المقاومة جانباً، قد جرّد نفسه من سلاحه أمام غطرسة العدو وتعدياته.
وفقاً لما جاء في تقرير مركز حقوق الإنسان اللبناني: منذ شباط حتى تشرين الأول 2025، سُجلت أكثر من ثمان وعشرين غارة جوية شنها الكيان الصهيوني على المناطق الجنوبية اللبنانية، ولم ينسحب الكيان بعد من خمس نقاط محتلة على الحدود الجنوبية، بما في ذلك المناطق المحيطة بقرى رميش وياروون وعيتا الشعب، كما تجوب الطائرات المسيرة الإسرائيلية يومياً سماء النبطية ومرجعيون، في انتهاك صارخ للسيادة الجوية اللبنانية.
دسيسة قديمة في ثوب جديد
لكن المثير للعجب أن سلام، رغم إقراره بإخفاق الدبلوماسية، ما زال يتشبث بمطلب واشنطن وتل أبيب بنزع سلاح حزب الله. فهو بتلاوته قائمة القوى المخولة حمل السلاح، يتمسك بذات الخطاب المنهزم الذي يرى الشعب اللبناني ثماره المرة بوضوح جلي.
في هذا المضمار، کتب علي مراد في صحيفة الأخبار: "الدولة اللبنانية من دون سند المقاومة وظهيرها عاجزة كليلة أمام تعديات إسرائيل، وخطاب التسوية قد تهاوى وانهار".
هذا في حين يواجه لبنان ثلاثة ملفات جوهرية أمام الكيان الصهيوني: أولها: النزاعات الحدودية المعلقة، إذ يرفض الكيان الانسحاب من النقاط المحتلة في الجنوب، ثانيها: الخلاف على منطقة كاريش الغازية في عرض البحر المتوسط، حيث يواصل الكيان الحفر رغم توقف المفاوضات، وثالثها: استراتيجية تل أبيب الثابتة لإضعاف الدول المجاورة عبر مواصلة الهجمات والتغلغل في نسيجها الداخلي.
المقاومة.. الملاذ الوحيد والحصن المنيع
في خضم هذه الظروف العصيبة، يغدو سلاح المقاومة ليس خياراً بل الحل الوحيد والسبيل الأوحد للذود عن السيادة وصون المصالح اللبنانية، فقد أثبتت صفحات التاريخ أن الدول العربية والغربية لا تكتفي بالتقاعس عن وقف التوسع الصهيوني فحسب، بل تسهم أحياناً من وراء الستار في تعزيزه وتمكينه.
اليوم تلوح في الأفق بشائر عودة حزب الله إلى ساحة المواجهة العسكرية، وإرساء معادلة الردع من جديد. فالتطورات الداخلية والإقليمية والدولية تشي بأن أيام الهدوء قد ولّت، وأن الأفق يحمل في طياته رداً حاسماً من المقاومة على تعديات العدو وغطرسته.
بات الشعب اللبناني اليوم يری بوضوح أن ما كان يُطلق عليه “خطاب التسوية” لم يكن مجرد سراب، بل أضعف موقف لبنان أمام العدو وأوهن من عزيمته.
نقلت صحيفة الديار اللبنانية يوم الخميس عن مصدر أمني قوله: "إن حزب الله عقد العزم على الرد مباشرةً على أي هجوم بري إسرائيلي، وهو يترقب تصعيداً وشيكاً من جانب إسرائيل".
وأكدت الديار نقلاً عن هذا المصدر الأمني أن حزب الله "أضحى اليوم أكثر قوةً وبأساً لأسباب شتى مما كان عليه قبل العدوان في عام 2024، فقد أُوصدت منافذ التسلل الإسرائيلية، ولا تعرف "إسرائيل" القادة الجدد ولا تقدر على استهدافهم، وخير دليل على ذلك أن جميع عمليات الاغتيال التي تنفذها تستهدف أعضاء الحزب لا قادته".
في هذا السياق، کشف محمد فنيش، المسؤول السياسي في حزب الله، الشهر المنصرم في حديث مع وكالة أسوشيتد برس: إن الحزب قيّد نفسه إلى حد بعيد بمطالبة الحكومة اللبنانية بالضغط على "إسرائيل" بما وصفه فنيش "بقدراتها السياسية والدبلوماسية وسائر الإمكانات المتاحة لها".
وأضاف: "إن تفاقمت الأوضاع وبلغت مداها، فإن قيادة المقاومة تتدارس المسألة بكل أبعادها، وجميع الخيارات مطروحة على بساط البحث".
لقد برهنت المقاومة اللبنانية مراراً أنها الدرع الواقي الوحيد القادر على صون سيادة هذا الوطن أمام التعديات والاعتداءات، واليوم أكثر من أي وقت مضى، أثبتت دورها المحوري في المعادلات الأمنية اللبنانية.
وكما تطل الشمس من خلف قمم جبال لبنان الشامخة، تهيئ المقاومة أيضاً ميدان النزال من جديد للرد على تعديات العدو واعتداءاته، هذه المرة ليس كخيار من بين خيارات، بل كسبيل وحيد للذود عن كرامة لبنان وصون سيادته.
