الوقت- مع مرور الأيام، يزداد وضوحُ حجم الجرائم التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي في قطاع غَزّة، حتى باتت صورة المُأساة تتبدّى بصورة أشدّ وضوحاً من أيّ حين.
هذه ليست مجرّد حربٍ أو عدوان عابر، بل حسب تقرير Euro‑Med Human Rights Monitor تُرتكب في غزة أفعالٌ من شأنها أن تشكّل إبادةً جماعية بحق السكان الفلسطينيين، من خلال قتلٍ مباشر، إلى جرائم حرب، إلى سياسات تجويعٍ وحصار، إلى تدميرٍ ممنهج للبنية التحتية وتهجيرٍ قسريّ.
في هذا التقرير التحليلي–الإخباري، نسلّط الضوء على هذه السياسة من خلال عدّة محاور: حجم الخسائر البشرية، التصعيد في الأسلوب والمقصد، سياسات التجويع والحصار، تدمير البنى التحتية وتهجير السكان، واستمرار الانتهاكات بالرغم من ما يُسمّى “وقف إطلاق النار”، كما ننظر إلى ردّ فعل المجتمع الدولي، وإلى ما يمثّله هذا الملف من اختبارٍ لنظام العدالة الدولي ولكلمة “إنسانية”.
خسائر بشرية وحجم الكارثة
حسب ما أوردته Euro-Med Monitor، فإن عدد الضحايا والجرحى والمعتقلين منذ 7 أكتوبر 2023 ارتفع إلى أرقامٍ كارثية: أكثر من 270 ألف شخص – أي ما يُقارب 12 ٪ من سكان غزة – كانوا قد سُجلوا كضحايا (شهيد، جريح أو معتقل) في الفترة الأولى.
هذه الأرقام تُبرز مدى شمول الكارثة: لا حيّزٌ آمن يُذكر في غزة، لا منطقَ للسكن، لا ملاذ، كلّ حيّ، كلّ عائلة، كلّ قيمة اجتماعية أو إنسانية باتت تحت خاوية الدمار.
حسب التقرير: ارتُقى نحو 75 ألف فلسطينياً شهيداً، من بينهم حوالي 70 ألف مدنياً (ما يُشكّل نحو 90٪ من مجموع الشهداء)، وبين هؤلاء نحو 21 ألف طفلاً (~30٪ من الشهداء) و14 ألف امرأة (~20٪). وتتّضح مأساة الجرحى أيضاً؛ إذ ما يُقدّر بـ 173 ألف فلسطيني جُرحوا، منهم نحو 40 ألف أصبحوا يعانون من إعاقاتٍ دائمة أو طويلة الأمد، تتضمّن بتر أطراف، إصابات نخاعية، تشوّهات، إصابات عينية، واضطرابات نفسية.
وهناك نحو 45600 طفل فقدوا أحد أو كلا الوالدين نتيجة استهدافاتٍ عسكرية، فضلاً عن آلاف المفقودين والمعتقلين (نحو 12000 قيد الاعتقال أو الاعتقال القسري حسب المصادر).
هذه الحصيلة لا تمثّل مجرّد أرقامٍ بل نمطاً من العنف المنظم، يستهدف المجتمع الفلسطيني في غزة بأكمله، تستهدف أجزاءه الأساسية: الأطفال، النساء، الكبار، المختصّين، البنى التحتية الحيّة المُنتجة — وهو ما تؤكده الدراسات القانونية التي ترى في ذلك «نية إبادة جماعية» (جنوسايد) بمعناها القانوني.
من العدوان العسكري إلى التدمير الاجتماعي والنفسي
لا يقتصر الأمر على القتل أو الجرح، بل يمتدّ إلى ضرب من الأسلوب المُتدرّج: تدمير المنازل، الشوارع، المدارس، المستشفيات، حذف حياة كاملة من كلّ ما يعني بها البقاء والكرامة.
مثال على ذلك، استهداف المواقع الأثرية والثقافية – إذ وثّقت Euro-Med Monitor تدميراً متعمّداً لمواقع تاريخية ودينية في غزة: منها مسجد العمري الكبير الذي يعود تاريخه إلى أكثر من 1400 سنة، وكذا كنائس ومعالم تاريخية – مما يشير إلى حملة “طرد ثقافي” مصاحبة للحملة العسكرية.
كما رصد التقرير أيضاً استهداف “النخبة” الفلسطينية – من مبرمجين ومهندسين وتقنيين – عبر استهدافها في المنازل أو في أماكن عملها، ضمن محاولةٍ لتجفيف القدرات الإنتاجية أو المستقبلية في غزة.
إلى جانب ذلك، هناك مكوّن نفسي واجتماعي: الأطفال يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD)، النوم المتقطّع، الاستيقاظ على أصوات القصف، فقدان الأهل، التشريد، انقطاع التعليم والرعاية، كلّ ذلك يُمهّد لكارثةٍ بشرية تمتدّ لأجيال.
سياسات التجويع والحصار: الجوع كسلاح
من بين أكثر الأدلة دلالية على توجهات الكيان الإسرائيلي ما وثّقته Euro-Med Monitor من أن آلية توزيع المساعدات التي أعلنتها تُخضعها لسيطرةٍ بحتة من الجانب الإسرائيلي، بحيث أصبحت “جزءاً من سياسة تجويعية” تهدف إلى إبقاء السكان في حالة بقاء على شفا الانهيار، لا إعادة بناء أو انتعاش.
كما أوضحت أن الحصار والتقييد الدخول إلى غزة تسبّبا في “تداعٍ يكاد يُسمّى مجاعة” – ففي رسالة موجهة إلى وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي، أشارت إلى وفاة 162 فلسطينياً، بينهم 92 طفلاً، نتيجة سوء التغذية، وتقييد دخول المواد الغذائية الأساسية والصيدليات والمستلزمات الطبية.
في تقرير آخر، أشارت إلى أن السياسات تفي بعنصرٍ من عناصر الجنوسايد: “فرض ظروف معيشية مُحتملة لإحداث الدمار الجسدي أو العقلي لجزء من المجموعة” – وهي إحدى البنود القانونية في تعريف الإبادة الجماعية.
هذا الاستخدام للجوع والحرمان والبطالة وسُلب القدرات الاقتصادية كوسيلة للضغط أو للإخضاع، يعكس تحولاً في طبيعة الحرب: ليست فقط ضربة عسكرية، بل حربٌ على أسلوب حياة، على بقاء كيان مجتمع.
التدمير البنيوي والتهجير القسري
ما يجري في غزة ليس مجرد قصف عشوائي أو حرب مدنية، بل ما يمكن تسميته سياسة “الأرض المحروقة” – فالتدمير يشمل ما يقارب 80٪ من المباني، ما يعادل نحو 555 ألف وحدة سكنية تدمّرت أو تضرّرت بشدة، إلى جانب آلاف المدارس والمؤسسات الصناعية والمواقع الصحّية والدينية، وحسب التقرير، 95٪ من المدارس والجامعات في غزة تضرّرت أو دُمّرت، ونحو 890 مسجداً و3 كنائس و205 مبانٍ تاريخية تأثرت.
هذا التدمير يُفضي إلى تهجير جماعي: حتى 99٪ من سكّان غزة اضطروا على الأقل مرّة لمغادرة منازلهم نتيجة القصف أو التهديد أو انهيار البنى التحتية أو أوامر الإخلاء التي أصدرها الكيان الإسرائيلي، أو خوفاً على حياة الأطفال والأسرة.
كما أنّ المنهجية تتضمّن “نقل قسريّ” – وهو جريمة حرب، حسب تقييم عددٍ من منظمات حقوق الإنسان.
فضلاً عن ذلك، البنية التي تُتيح إعادة البناء مدمّرة، الكهرباء والمياه والطرق مُهدّمة، ما يمنع حتى العودة أو العيش الكريم، بهذا تتحوّل غزة إلى موقع احتلال طويل الأمد عبر التدمير والتهجير وليس مجرد عدوان عابر.
وقف إطلاق النار وإخفاء الحقيقة؟ الاستمرار تحت عنوان "الهدنة"
رغم ما أعلن عن حلول تهدئة أو اتّفاقيات لوقف إطلاق النار، فإن الحقائق على الأرض تقول إن ما يُحصَل عليه هو هدوءٌ نسبيّ في نطاق معين لكن استمرارٌ كامل للسياسات التي تشكّل جوهر الجريمة: حصار، تجويع، تدمير، تهجير، اعتقالات.
في تقريرها “رغم وقف إطلاق النار، الكيان الإسرائيلي يواصل ارتكاب إبادة جماعية في غزة” أشارت Euro-Med Monitor إلى أن توقّف القصف لا يعني انتهاء الحرب، بل دخولها مرحلةٍ أخرى: مرحلة الابادة الصامتة عبر الحرمان والحصار.
وهذا ما يعانيه السكان: ليس فقط من القذائف، بل من الصمت الدولي، من بنية “ما بعد المعركة” التي لا تشمل إعادة إعمار حقيقي، أو مسؤولية قانونية، أو حماية إنسانية.
ردّ فعل المجتمع الدولي وغياب المحاسبة
يطرح هذا الملف سؤالاً عسيراً: ما قيمة القوانين الدولية، وما جدوى المنظومة التي تضع “الإبادة الجماعية” في مرتبة الجنائية؟ فقد قالت Euro-Med Monitor إن هناك “نية إبادة جماعية” ثابتة، وبأن الكيان الإسرائيلي يتحمّل مسؤولية مباشرة وليس فقط التصرف عبر “أفراد جنود” بل من أعلى هرم السلطة، وهم ممن يجب محاكمتهم بموجب القانون الدولي.
لكن في مقابل ذلك، ليس هناك حتى الآن محاسبة حقيقية لمسؤولين إسرائيليين بارزين، ولا تطبيق فعلي لقراراتِ المحكمة الدولية أو مجلس الأمن يقضي بوقف الدعم أو العقوبات. وهذا يغلّب انطباعاً بعدم جدّية النظام الدولي في مواجهة أطراف قوية أو حليفة للدول الكبرى.
من جهةٍ أخرى، الدول الأوروبية والأمريكية لا تزال تمنح الغطاء السياسي أو العسكري أو المالي للكيان الإسرائيلي، ما يعني أن “ثقافة الإفلات من العقاب” تزال تُطبّق. وفي هذا ما يُسجّل كإخفاقٍ إنساني وقانوني.
لماذا هذا الأمر مهم؟ ولماذا يجب أن يُرى كأولوية؟
- أولاً: لأن ما يحدث في غزة ليس أزمة إنسانية عابرة فقط، بل اختبارٌ لكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية: الحق في الحياة، في الغذاء، في التعليم، في العودة، في الكرامة، إذا فُشِل العالم في التصدّي لمثل هذه الحالة، فإن ذلك يمهّد لجرائم مستقبلية في أماكن أخرى.
- ثانياً: لأن الاستمرار في الاحتلال، في التدمير المنهجي، في التهجير، في الحصار، يعني أن القضية الفلسطينية لا تنتهي بالحرب فقط، بل بإعادة تشييد المجتمع الفلسطيني – وهو أمر تدخّله الكيان الإسرائيلي بسياسة ممنهجة، فإذا توقف التركيز على البنى التحتية الإنسانية والاجتماعية، فالغزّة ستُمحى كمجتمع قائم.
- ثالثاً: لأن التفسير القانوني – بأن هناك إبادة جماعية – يعني أن هناك واجباً على الدول والمجتمع الدولي أن يتدخّل ليس فقط بمساعدات إنسانية، بل عبر آليات قانونية، عقوبات، تجميد دعم، وقفل الباب أمام اللامحاسبة.
- رابعاً: لأن العمل الإعلامي والسياسي – وهو مجال اهتمامك – له دورٌ أساسي في كشف الحقيقة، مواجهة التحريف، وإبقاء الضغوط على الدول والمؤسسات، فغياب الإعلام الحر أو الحياد يُسهّل تمرير هذه السياسات باعتبارها “أعمال عسكرية” فقط، دون ربطها بالسياق القانوني والإنساني الأوسع.
في النهاية، ما يجري في قطاع غزة لم يعد مجرد “نزاع مسلح” أو “عملية عسكرية محدودة”، بل هو فصلٌ ممتد من سياسة الإبادة الممنهجة التي ينفذها الكيان الإسرائيلي بحقّ شعبٍ أعزل، الأرقام لم تعد مجرّد إحصاءات، بل شواهد على جريمةٍ تُرتكب بوعيٍ كامل وعلى مرأى العالم، فيما يختبئ الصمت الدولي خلف شعاراتٍ جوفاء عن «القلق» و«ضبط النفس».
إنّ استمرار هذه المأساة تحت غطاء الهدنة أو التهدئة لا يعني سوى تثبيت واقع الإبادة البطيئة وتجذيرها، وتبقى غزة، رغم كلّ ما فُرض عليها من حصارٍ وتجويعٍ ودمار، شاهداً على فشل المنظومة الدولية في حماية الإنسان حين يكون فلسطينياً، وعلى صمودٍ يُجسّد بقاءَ الحقّ في وجه آلةٍ لا تعرف سوى القتل.
وربما يكون السؤال الحقيقي اليوم: كم من الدم والخراب يحتاجه العالم كي يعترف بأن ما يحدث في غزة ليس حرباً، بل جريمة إبادةٍ تُنفّذ ببطءٍ وإصرار؟
