الوقت- فی مشهدٍ نادر يجمع بين رماد الحرب ونور الفن، تحتضن غزة مهرجانها السينمائي المخصص للمرأة الفلسطينية، في خطوةٍ تحمل من الدلالات ما يفوق مجرد حدثٍ ثقافي. إنها صرخة فنية في وجه آلة الإبادة، ورسالة إلى العالم مفادها أن المرأة الفلسطينية، رغم الجراح والفقد، لا تزال قادرة على تحويل الألم إلى إبداع، والمعاناة إلى طاقة مقاومة.
على مدار عامين من حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها كيان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر، لم تبقَ أي زاوية من حياة الفلسطينيين بمنأى عن الموت والدمار. ومع ذلك، ظلّت المرأة الفلسطينية – الأم والزوجة والطبيبة والعاملة – عمود الصمود الأول، وحارسة الحكاية التي ترفض أن تُطوى. فبحسب أحدث إحصائية صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، استُشهدت أكثر من 12 ألفاً و500 امرأة فلسطينية منذ اندلاع العدوان، في مشهد يختزل حجم المأساة التي تتعرض لها النساء في هذه الحرب الإبادية.
لكن غزة، التي أريد لها أن تكون أنقاضاً وصمتاً، قررت أن تتكلم بالفن. جاء مهرجان غزة الدولي لسينما المرأة ليكسر العزلة الثقافية، وليحوّل الوجع إلى فعلٍ إبداعي، وليؤكد أن المقاومة ليست فقط بالبندقية، بل أيضاً بالصورة والكلمة والمشهد السينمائي.
الفن في مواجهة المحو
في عالمٍ تتسيّد فيه الرواية الصهيونية على كثير من المنابر الإعلامية الغربية، تمثل السينما الفلسطينية اليوم ساحةً موازية للمقاومة، تسعى لتصحيح الصورة التي شوّهها الإعلام الموجّه، وإعادة الاعتبار للإنسان الفلسطيني بوصفه ضحيةً لحرب استعمارية، لا كما يُقدّم عادة في خطاب الدعاية الإسرائيلية.
إن عرض هذه الأفلام على المستوى الدولي، كما يؤكد منظمو المهرجان، “يساهم في تصحيح الصورة وتقديم الحقائق عن معاناة الفلسطينيين”. فالفيلم هنا ليس ترفاً فنياً، بل أداة توثيق وتحرير، تنقل إلى العالم وجوه الأمهات المكلومات، وصوت الطبيبات اللواتي يداوين الجرحى تحت القصف، وحكايات النساء اللواتي يعُلن أسرهن بعد استشهاد الأزواج والأبناء.
من خلال الكاميرا، تكتب المرأة الفلسطينية روايتها الخاصة، وتقدّم سردها البديل الذي يقاوم تزييف التاريخ. هي لا تنتظر أن يتحدث أحد باسمها؛ بل تصوّر وتروي وتصرخ في وجه الظلم بلغة الفن، لتقول للعالم: نحن هنا، لم نُمحَ بعد.
بين الألم والكرامة
المرأة الفلسطينية في هذه الحرب ليست مجرّد ضحية؛ إنها صانعة الحياة في قلب الموت. الأم التي تحتضن أبناءها في الملاجئ، والزوجة التي تودّع شريكها الذاهب إلى الجبهة، والطبيبة التي تواصل العمل في المستشفيات المدمّرة رغم انقطاع الكهرباء ونفاد الدواء، والعاملة التي تحاول تأمين قوت عائلتها بين الركام — جميعهن وجوه لبطولة يومية تتجاوز المفهوم التقليدي للصمود.
ولهذا جاء المهرجان ليكرّم هذه البطولة الإنسانية، في اليوم الوطني للمرأة الفلسطينية، وليعبّر كما قالت المخرجة فاتن حرب “عن صمودها خلال عامين من الحرب، وعن وجعها ومعاناتها اليومية”. تضيف حرب أن المرأة من خلال هذا المهرجان “تجسّد صور الفقد والوجع أمام العالم، وتبرق رسالة إنسانية تؤكد حقها في العيش بكرامة وسلام”.
بهذه الكلمات، تلخّص فاتن حرب جوهر الفعل الثقافي في زمن الإبادة: أن يكون الفن مرآةً للجرح، وصرخةً في وجه الصمت العالمي. فحين يعجز العالم عن وقف القصف، تتولّى الكاميرا مهمة إيقاظ الضمير الإنساني.
غزة تحب الحياة
رغم الحصار، والدمار، والحرمان، تبقى غزة مدينة تحب الحياة. بهذه الروح تحدث يسري درويش، رئيس الاتحاد العام للمراكز الثقافية في فلسطين، قائلاً إن “انطلاق مهرجان غزة الدولي لسينما المرأة يؤكد أن غزة تحب الحياة رغم الإبادة”. ويضيف: “الشعب الفلسطيني ومثقفوه يصرّون على القول إن غزة مدينة لا تموت، بل تنهض من تحت الركام لتعلن للعالم أن شعبنا يستحق الحياة”.
هذا الإصرار الثقافي هو وجه آخر للمقاومة. فبينما يسعى كيان الاحتلال الإسرائيلي إلى طمس ملامح غزة وهويتها، يردّ الفنانون والمثقفون الفلسطينيون بإعادة بناء الذاكرة الجماعية عبر الصورة والسينما والموسيقى والمسرح. إنهم يدركون أن المعركة ليست عسكرية فقط، بل وجودية أيضاً، وأن الحفاظ على الذاكرة هو شرط النجاة من المحو.
في هذا السياق، يصبح تنظيم المهرجان عملاً سياسياً بامتياز، لا يقل شجاعةً عن النضال الميداني. إنه تأكيد على أن الكلمة قادرة على مواجهة الرصاصة، وأن الصورة تستطيع أن تخترق الجدران التي تحاصر الحقيقة.
تمكين المرأة، تمكين للحقيقة الفلسطينية
من بين أهداف المهرجان الرئيسة تمكين المرأة الفلسطينية سينمائياً، عبر التدريب على صناعة الأفلام الوثائقية والقصيرة، لتمتلك أدوات السرد البصري وتنقل روايتها إلى العالم بلغتها الخاصة. هذه الخطوة تفتح الباب أمام جيل جديد من المخرجات الفلسطينيات اللواتي سيحملن الكاميرا كسلاحٍ مقاوم، يواجه الاحتلال بعدسةٍ تنبض بالحقيقة.
إن تمكين المرأة في هذا الإطار لا يقتصر على منحها مهارات تقنية، بل يشمل أيضاً تمكينها من امتلاك خطابها الإنساني والسياسي المستقل. فكل فيلم تُنتجه امرأة فلسطينية هو شهادة على زمنٍ من الألم والبطولة، وسجلٌّ يوثق لحظاتٍ حاول الاحتلال محوها من التاريخ.
ولعلّ الأهم في هذا المشروع هو نقل هذه الأعمال إلى المهرجانات الدولية، لتصبح غزة – رغم الحصار – جزءاً من الخريطة السينمائية العالمية، ولتجد الرواية الفلسطينية مكانها الطبيعي في النقاش الإنساني حول العدالة والحرية.
السينما جسر نحو العالم
في ظل تعتيم إعلامي متعمّد ومحاولات دائمة لتبرير جرائم الاحتلال، تمثل السينما أداة اختراقٍ ثقافي. فالفيلم الفلسطيني، حين يُعرض في باريس أو مدريد أو طوكيو، لا يحتاج إلى مترجم ليوصل رسالته: صورة أمّ تبحث عن طفلها تحت الأنقاض تقول أكثر مما يمكن أن تقوله آلاف البيانات السياسية.
إن عرض هذه الأفلام على مستوى دولي، كما يقول منظمو المهرجان، ليس فقط وسيلةً لتصحيح الصورة، بل هو شكل من أشكال العدالة الرمزية. فحين يرى المشاهد الأجنبي المعاناة بعين الكاميرا الفلسطينية، تنكسر الرواية المهيمنة التي طالما قدّمها الإعلام الغربي لصالح كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتبدأ الحقائق بالظهور على طبيعتها: شعبٌ يُقتل لأنه يريد الحياة.
تكريم المرأة... وتخليد الذاكرة
اعتبر يسري درويش أن تنظيم المهرجان في هذا التوقيت “يكرّم المرأة الفلسطينية التي تحملت ويلات الحرب، من فقد واعتقال وتشريد، وتستحق في يومها الوطني أن تُرفع مكانتها وتُروى قصتها بصدق أمام العالم”.
هذه الكلمات تختصر فلسفة المهرجان: أن يتحول الألم إلى ذاكرةٍ حية، وأن تُروى القصص بأصوات أصحابها لا بأقلام الغرباء. فالفن هنا لا يجمّل الواقع، بل يواجهه بشجاعة، ويحول المأساة إلى سردٍ مقاوم.
الفن بوصفه مقاومة
يقول المفكر الفرنسي بول ريكور: “الذاكرة حين تُروى، تُقاوم النسيان”. وهذا ما تفعله السينما الفلسطينية اليوم في غزة. فكل فيلم هو فعلُ تذكّرٍ ضد المحو، وكل مشهد هو استعادةٌ للإنسان في مواجهة الوحشية.
من رحم الدمار، تولد كاميرا تسجّل. ومن بين الأنقاض، تخرج امرأة تحمل عدستها لتقول للعالم: لم نُخلق للبكاء فقط، بل لنروي حكايتنا ونطالب بحقنا في الحياة.
ختام القول
مهرجان غزة السينمائي ليس مجرد فعالية فنية؛ إنه حدث إنساني وسياسي يعبّر عن إرادة الحياة في وجه الموت، وعن قدرة المرأة الفلسطينية على تحويل الجراح إلى إبداع. إنه مساحة تُكرّم فيها المرأة كرمزٍ للصمود، وتُروى فيها القصة الفلسطينية بأصوات نسائها، لتصل إلى العالم بلا وسطاء ولا تزييف.
ورغم أن كيان الاحتلال الإسرائيلي أراد لغزة أن تكون مكاناً للنسيان، فإن نساءها يثبتن عبر السينما أن الذاكرة أقوى من الركام، وأن الحقيقة لا تُمحى. فغزة، التي تكتب تاريخها بالدم والصورة، تقول للعالم مرة أخرى: نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً، حتى في زمن الإبادة.
