الوقت- على مدار عامين كاملين من الحرب المدمّرة التي شنّها كيان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، لم تتوقف الأدلة والشهادات عن التدفق لتكشف حجم الجرائم المرتكبة بحقّ الفلسطينيين، اليوم، وبعد جهدٍ استقصائي وتحقيقي غير مسبوق، أعلنت لجنة دولية مستقلة أنها جمعت أكثر من 16 ألف دليل يثبت ارتكاب كيان الاحتلال جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، الأدلة التي تشمل شهاداتٍ وصور أقمار صناعية ومقاطع موثقة وتحليلًا رقمياً دقيقاً، تمثل خطوة نوعية في طريق محاسبة مرتكبي الجرائم التي طالت المدنيين الفلسطينيين، وتضع أمام المجتمع الدولي واجباً أخلاقياً وقانونياً لا يمكن تجاهله.
لجنة التحقيق: أربع سنوات من العمل المستقل
اللجنة الدولية المستقلة التي تعمل تحت تفويض من الأمم المتحدة تأسست قبل نحو أربع سنوات، عقب سلسلة من الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنذ ذلك الحين، اعتمدت اللجنة منهجية صارمة ودقيقة في جمع الأدلة، تقوم على التحدث المباشر مع الشهود والضحايا وأسرهم، والاعتماد على صور الأقمار الصناعية والمقاطع المصورة، بالإضافة إلى استخدام أدوات تحليل الأدلة الرقمية لتوثيق مواقع القصف، وتحديد الأسلحة المستخدمة، ورصد نمط الاستهداف.
حسب رئيس اللجنة، نيكولاس سيدوتي، فإن فريق التحقيق يعمل بالآلية ذاتها التي التزم بها منذ تأسيس اللجنة، بما يضمن الاستقلالية والحياد والموثوقية القانونية في كل ما يتم جمعه وتحليله، ويشير سيدوتي إلى أن عمل اللجنة لا يقتصر على توصيف الجرائم فقط، بل يمتد إلى تحديد المسؤوليات المباشرة وغير المباشرة، سواء كانت عسكرية أو سياسية أو تنفيذية.
الأدلة تتحدث: ممنهجية القتل والدمار
من بين الـ16 ألف دليل التي جمعتها اللجنة، هناك آلاف الصور والمقاطع التي توثق الاستهداف المتعمد للمنازل والمدارس والمستشفيات ومراكز الإيواء، وتظهر المقاطع الجوية وصور الأقمار الصناعية مدى الدمار الهائل الذي لحق بالمناطق السكنية في شمال ووسط القطاع، حيث أُبيدت أحياء كاملة دون أي مبرر عسكري واضح، في خرقٍ صريحٍ لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني.
كما توثق الأدلة استخدام كيان الاحتلال أسلحة محرّمة دولياً في مناطق مكتظة بالمدنيين، بما في ذلك الفوسفور الأبيض، وهو ما أكّدته منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و“العفو الدولية”، هذه الأفعال لا تندرج تحت بند الأخطاء العسكرية، بل تعبّر عن نمطٍ ممنهج من القتل الجماعي والتدمير المتعمد الذي يستهدف البنية المجتمعية للشعب الفلسطيني بأسره.
من القادة إلى الجنود: تحديد المسؤوليات
في سابقة مهمة، كشفت اللجنة أن عملها خلال الأشهر الماضية لم يتوقف عند تحديد نوعية الجرائم ومواقعها، بل امتد إلى تحديد هوية القوات والوحدات العسكرية الإسرائيلية التي ارتكبت هذه الجرائم، وحسب سيدوتي، تمكّنت اللجنة من ربط العديد من الانتهاكات بوحدات محددة في الجيش الإسرائيلي، كما توصلت في حالات أخرى إلى تحديد أفراد وقادة ومسؤولين حكوميين وعسكريين أعطوا الأوامر بتنفيذ عمليات القصف والقتل.
هذا التطور يعني أن التحقيق الدولي بات يمتلك قاعدة بيانات قابلة للاستخدام في الإجراءات القضائية الدولية، سواء في المحكمة الجنائية الدولية أو أمام لجان قانونية خاصة، ووفق مراقبين، فإن هذا التقرير يمكن أن يشكل اللبنة الأساسية لتفعيل أوامر الاعتقال الدولية بحق رئيس وزراء كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، اللذين وجّهت لهما بالفعل المحكمة الجنائية الدولية اتهامات أولية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
السياق الإنساني: غزة بين الحصار والإبادة
منذ اندلاع العدوان في أكتوبر 2023، يعيش الفلسطينيون في قطاع غزة تحت حصار شامل وتجويع ممنهج، ووفق تقارير أممية، فقد استُهدف المدنيون في طوابير الخبز، وقُصفت سيارات الإغاثة والمستشفيات، بينما جرى منع دخول الوقود والأدوية، ما تسبب بانهيار النظام الصحي.
كل هذه الممارسات، كما تؤكد اللجنة، لا يمكن تفسيرها كأفعال دفاع عن النفس، بل هي سياسات ممنهجة تهدف إلى تدمير الحياة المدنية والبنية المجتمعية، هذا النمط من السلوك العسكري والسياسي يتطابق مع تعريف الإبادة الجماعية الوارد في اتفاقية عام 1948، ويعكس نية واضحة لاستهداف جماعة قومية أو عرقية بهدف القضاء عليها.
التوثيق الدولي: من الأدلة إلى العدالة
ما يميز هذا التقرير أنه يأتي بعد سلسلة من المحاولات السابقة لتوثيق الجرائم الإسرائيلية التي غالباً ما كانت تُجهض سياسياً بفعل الضغوط الأمريكية والغربية، إلا أن حجم الأدلة هذه المرة، وطبيعتها الرقمية الموثقة من مصادر متعددة، يجعل من المستحيل تجاهلها.
تتضمن الأدلة، وفق اللجنة، آلاف الساعات من المقاطع المصورة الملتقطة من الكاميرات المحمولة والطائرات المسيرة، إضافة إلى تحليل بيانات الاتصالات العسكرية الإسرائيلية، وتقارير الطب الشرعي الميدانية التي جمعت من مواقع القصف، هذه المواد تشكل ملفاً جنائياً متكاملاً يمكن تقديمه للمحكمة الجنائية الدولية ضمن مسار الملاحقة القانونية.
مسؤولية المجتمع الدولي
رغم وضوح الأدلة، ما زال الموقف الدولي منقسمًا بين من يدعو إلى المحاسبة ومن يواصل توفير الغطاء السياسي لكيان الاحتلال، فالولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية تستمر في تعطيل قرارات الإدانة، وتبرير القتل بذريعة “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”، متجاهلة أن القانون الدولي لا يمنح أي دولة الحق في الانتقام الجماعي أو التدمير الممنهج.
لكن في المقابل، تتزايد الأصوات القانونية والحقوقية التي تطالب بتفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية، ما يسمح للدول بمحاكمة مرتكبي الجرائم حتى إن لم يكونوا على أراضيها، وإذا ما استُخدمت الأدلة التي جمعتها اللجنة في هذا الإطار، فقد يشكل ذلك سابقة تاريخية تضع حدًا لسياسة الإفلات من العقاب التي استفاد منها قادة كيان الاحتلال لعقود.
نتنياهو وغالانت في مرمى العدالة
تقرير اللجنة يعزز المطالبات المتزايدة بتنفيذ أوامر الاعتقال الدولية بحق بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، واللذين أشرفا على إدارة الحرب ضد غزة، فالأوامر الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية لا يمكن تعليقها أو تسييسها، وخصوصًا بعد أن أكدت الأدلة الموثقة أن القرارات العسكرية والسياسية التي اتُخذت في تل أبيب كانت تستهدف المدنيين بشكل مباشر.
ويُنظر إلى التقرير كفرصةٍ حاسمة للمجتمع الدولي لتأكيد مصداقيته، فإما أن تُترجم هذه الأدلة إلى إجراءات قانونية حقيقية، أو يستمر النظام الدولي في سياسة الكيل بمكيالين، ما يعني عمليًا تشجيع الاحتلال على مواصلة جرائمه دون رادع.
العدالة المؤجلة لا تعني النسيان
رغم محاولات طمس الحقيقة وتضليل الرأي العام، فإن توثيق أكثر من 16 ألف دليل على جرائم كيان الاحتلال في غزة يعني أن الذاكرة القانونية والإنسانية للعالم قد احتفظت بالحقائق كما هي، وإن لم تتحقق العدالة اليوم، فإنها قادمة لا محالة، لأن الجرائم التي تُرتكب بهذا الحجم لا تسقط بالتقادم.
فالشهادات المسجلة، وصور الأقمار الصناعية، ومقاطع الفيديو، والتقارير الطبية، كلها تشكل أرشيفًا قانونيًا لا يمكن إنكاره، سيبقى شاهدًا على واحدة من أبشع المآسي الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
ختام القول
ما كشفته اللجنة الدولية المستقلة ليس مجرد تقرير جديد، بل وثيقة إدانة كاملة لسياسات كيان الاحتلال الإسرائيلي في غزة، فالأدلة التي جُمعت على مدى سنوات، وخاصة خلال العدوان الأخير، تثبت أن ما جرى لم يكن “حربًا” بل عملية إبادة ممنهجة استهدفت المدنيين والبنية المجتمعية الفلسطينية.
إن الطريق نحو العدالة لا يزال طويلاً، لكن هذا التوثيق الدولي يشكل خطوة جوهرية نحو كسر جدار الصمت، وإثبات أن جرائم كيان الاحتلال الإسرائيلي لن تبقى بلا حساب، فالمساءلة لم تعد خيارًا سياسياً، بل ضرورة إنسانية وقانونية لحماية ما تبقى من القيم العالمية للعدالة وحقوق الإنسان.
