الوقت- في خضمّ النزاع المستمرّ في قطاع غزة، برز ما يُعرف باسم “الخط الاصفر” الذي ترسمه قوات الاحتلال الإسرائيلي كفاصل أمني مزعوم يهدف إلى “منع هجمات مستقبلية من جانب حماس”. إلا أنّ هذا الخط، الذي اكتسب حضورًا واسعًا في الخطاب السياسي والعسكري الإسرائيلي، لا يبدو مجرّد إجراءٍ مؤقّت، بل يميل نحو التحوّل إلى واقع جغرافي مُعاد تشكيله، يفرض تبعات إنسانية وعسكرية وسياسية عميقة على القطاع وسكانه. وقد أثار هذا المفهوم نقاشًا واسعًا بعدما أشار إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال طرح شروطه لإنهاء الحرب، وهو ما دفع مراكز بحث، من بينها مركز البحوث في الكونغرس الأميركي، إلى تحليل أبعاده واعتباره خطوة تتجاوز مرحلة وقف إطلاق النار.
تعريف الخطّ وأهدافه المعلنة
يُعرَّف “الخط الاصفر” بأنه امتداد أمني داخل أراضي القطاع، تُحدَّد عبره مناطق يُصنّفها الجيش الإسرائيلي “ذات حساسيّة أمنية عالية”، ويمنع اقتراب المدنيين الفلسطينيين منها. وتمتد هذه المنطقة على شكل حزام عازل بمحاذاة محاور أساسيّة في شمال غزة ووسطها وجنوبها، خصوصًا في محيط خان يونس. ويُعامل الجيش الإسرائيلي أيّ حركة قرب هذا الحزام باعتبارها تهديدًا مباشرًا، ما يُبرّر وفق روايته استخدام القوة الفورية ضدّ أي تحرك يُرى بأنه اختراق.
وتؤكد الوثائق الإسرائيلية الرسمية، إضافةً إلى تصريحات القيادة العسكرية، أنّ تنفيذ الخطّ يهدف إلى منع “عودة قدرات حماس العسكرية” عبر منع الوصول إلى مناطق تراها إسرائيل حسّاسة أو قابلة لإعادة الاستخدام لأغراض قتالية. غير أنّ استمرار الحديث عن بقاء طويل الأمد لقوات الاحتلال في هذه المحاور يوحي بأن الأمر لم يعد مرتبطًا فقط بسيناريو ما بعد الحرب المباشر، بل بترتيبات تتجذّر بعمق داخل جغرافيا غزة.
الأثر الإنساني في توسيع المساحة غير القابلة للسكن
أدّى هذا الخط إلى تحويل ما يقارب نصف مساحة قطاع غزة إلى مناطق غير قابلة للعودة أو الإقامة، وفق تقديرات منظمات دولية وتقارير ميدانية. إذ اضطرّت آلاف العائلات إلى النزوح مجددًا نحو مناطق مكتظة أصلًا، بينما تضرّرت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الواقعة ضمن نطاق “الحزام”، ما ساهم في تراجع الأمن الغذائي بشكل ملحوظ.
وتشير الروايات الميدانية إلى أن القوات الإسرائيلية تُصدر أوامر صارمة تحظر على السكان الاقتراب من الخطّ، وهو ما جعل العودة إلى المنازل أو المزارع أمرًا محفوفًا بالخطر، إذ تُجيز قواعد الاشتباك الجديدة كما تظهر في التعليمات العسكرية— إطلاق النار على من يقترب من المنطقة دون إنذار مسبق.
وإلى جانب ذلك، أدى منع قوافل الإغاثة أو تأخيرها عن بعض المناطق القريبة من الخط إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، إذ باتت المخيمات والبلدات المحاذية له تعتمد بشكل شبه كامل على المساعدات المحدودة، ما يُضيف طبقة جديدة من المعاناة لسكان القطاع الذين يعيشون واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخهم.
خطّ يقوّض جهود الوساطة
لم يمرّ مخطط “الخط الاصفر” دون ردود فعل إقليمية ودولية، خصوصًا من الدول التي تعمل وسيطًا في مسار وقف إطلاق النار مثل مصر وقطر. إذ ترى هذه الدول أنّ فرض منطقة حائل بهذا الحجم وبهذه القواعد العسكرية المكثفة يُعقّد مسار المفاوضات، لأنّ الهدنة في حال التوصل إليها ستبقى معلّقة داخل واقع ميداني غير مستقر، ما يُضعف فرص بناء تسوية دائمة.
كما تعتقد بعض الأطراف الدولية أنّ استمرار إسرائيل في رسم حدود فعلية داخل القطاع يُعدّ سابقة خطيرة في إدارة المناطق المحتلة، ويخلق نموذجًا قد يُكرَّس ليُشبه، من زاوية معيّنة، ما حدث مع “الخط الأخضر” بعد 1948، حين تحوّلت خطوط مؤقتة إلى حدود أمر واقع في المشهد السياسي الإقليمي.
من خط تكتيكي إلى استراتيجية دائمة
من منظور أعمق، يبدو أن “الخط الاصفر” يُشكّل نقلة نوعية في شكل السيطرة الإسرائيلية على غزة. فالهدف يتجاوز البعد الأمني الظاهر، ليصل إلى إعادة صياغة الجغرافيا السياسية للقطاع، عبر خلق أحزمة يصعب على السكان تجاوزها، وبذلك تُعاد هندسة حركة الناس، وإمكانات العودة، ومسارات الإعمار.
ولا يمكن إغفال أنّ وجود هذا الخطّ يُحوّل القطاع إلى مساحة مُدارة عسكريًا على المدى الطويل، حتى لو توقفت العمليات القتالية رسميًا. أي أن غزة تتحرك تدريجيًا نحو نموذج “إدارة أزمة مستدامة”، حيث تستمر السيطرة من الخارج، بينما يُترك الداخل في حالة هشاشة دائمة.
ويشير خبراء في القانون الدولي إلى أن فرض منطقة حائل داخل أرض تحت الاحتلال، مع تقييد حركة المدنيين وإعادة رسم حدود أمنية جديدة، يفتح الباب واسعًا أمام تساؤلات قانونية حول الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي تكفل حماية السكان المدنيين. فإطلاق النار على المدنيين العائدين أو الراغبين في الوصول إلى ممتلكاتهم يُعدّ انتهاكًا صارخًا لقواعد الحرب، ما يجعل الخطّ أكثر من مجرد إجراء، بل سياسة استراتيجية تحمل تبعات قانونية وإنسانية واسعة.
يبدو أن هذا الخط قد تجاوز حدّه المعلن كإجراء أمني، ليصبح جزءًا من معادلة جديدة لمستقبل غزة. فمن خلال ترسيخ وجود عسكري في محاور محددة، ومنع العودة إلى مناطق واسعة، وتعطيل إمكانات الإعمار، يسعى الاحتلال إلى فرض واقع جغرافي دائم يُشبه إعادة رسم حدود داخلية غير معلنة.
في النهاية، فإن هذا الخطّ يُجسّد استراتيجية طويلة المدى للسيطرة عبر التشتيت الجغرافي والتقييد الإنساني، ويمثّل اختبارًا حقيقيًا للمجتمع الدولي: هل يسمح بتحويل إجراءات مؤقّتة تُفرض بزعم الأمن إلى واقع دائم يُدفع ثمنه من حياة المدنيين؟
إنّ مستقبل غزة لن يتحدّد عبر خرائط تُرسَم في غرف العمليات العسكرية، بل عبر قدرة المجتمع الدولي على حماية حقوق السكان، وقدرة الفلسطينيين على الصمود واستعادة حقهم في أرض قابلة للحياة، لا محاطة بالأحزمة والعوائق والأسلاك.
