الوقت- في مشهد لم يشهد له التاريخ الحديث مثيل، وقف رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على منبر الكنيست يتفاخر — بكل وقاحة وصلافة — بأن جيشه ألقى على قطاع غزة 153 طنًا من المتفجرات، وكأنه يتحدث عن إنجاز عسكري بطولي، لكن خلف هذا الرقم المروع، تختبئ واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية التي شهدها القرن الحادي والعشرون: إبادة جماعية مكتملة الأركان، تُنفذ على مرأى ومسمع العالم كله، وبغطاء سياسي أمريكي وغربي مطلق.
153 طنًا من المتفجرات… على مساحة 360 كيلومتر مربع فقط
حين يقول نتنياهو إن طائراته ألقت 153 طنًا من المتفجرات على قطاع لا تتجاوز مساحته 360 كيلومترًا مربعًا، فإن هذا يعني من الناحية العلمية والعسكرية أن كل متر مربع من غزة قد تلقى نصيبه من القنابل، فغزة هي واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، يسكنها أكثر من 2.3 مليون إنسان، بينهم مئات الآلاف من الأطفال والنساء والمسنين.
هذه الأرقام لا يمكن أن تُقرأ كبيانات عسكرية، بل كإعلان واضح عن نية الإبادة. إذ لا يمكن لأي جيش في العالم أن يبرر استخدام هذا الكم الهائل من المتفجرات في منطقة مكتظة بالمدنيين إلا إذا كان هدفه الحقيقي ليس القضاء على خصم عسكري، بل القضاء على السكان أنفسهم.
وفي الحقيقة، فإن حجم المتفجرات الذي تحدث عنه نتنياهو يتجاوز بكثير ما أُلقي في العديد من الحملات العسكرية الكبرى في التاريخ الحديث، فخلال الحرب على العراق عام 2003، لم تُلقِ قوات التحالف مثل هذا الكم الهائل من المتفجرات على مدينة واحدة، بل إن ما ألقي على غزة خلال أشهر قليلة يفوق ما ألقي على مدن أوروبية بأكملها خلال الحرب العالمية الثانية.
الاعتراف الرسمي… دليل كافٍ لمحكمة لاهاي
هذا الاعتراف الصريح من نتنياهو لا يترك أي مجال للشك، فالقانون الدولي لا يكتفي بوقوع الجريمة، بل يعتبر النية المعلنة والمثبتة دليلًا قاطعًا على القصد الجنائي، وعندما يتحدث رئيس حكومة دولة الاحتلال عن "153 طنًا من المتفجرات"، وهو يعلم تمامًا أن هذه القنابل سقطت على منازل ومستشفيات ومدارس ومخيمات للاجئين، فإن ذلك يمثل اعترافًا علنيًا بارتكاب جريمة حرب وجريمة إبادة جماعية مع سبق الإصرار والترصد.
ووفقًا لنظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، فإن "الإبادة الجماعية" تُعرف بأنها أي فعل يُرتكب بنية تدمير جماعة قومية أو عرقية أو دينية بشكل كلي أو جزئي. وما يحدث في غزة منذ أكتوبر 2023 — من قصف عشوائي، وتجويع متعمد، وتدمير شامل للبنى التحتية المدنية، وحرمان من الماء والدواء والغذاء — يطابق حرفيًا نصوص هذه التعريفات القانونية.
وبالتالي فإن اعتراف نتنياهو أمام الكنيست ليس مجرد تصريح سياسي، بل هو دليل قضائي مباشر يمكن أن يُستخدم لإثبات القصد الجنائي للإبادة أمام المحكمة الجنائية الدولية.
إبادة معلنة… وصمت دولي متواطئ
ما يزيد فداحة المشهد هو أن هذا التصريح المروع لم يُقابل بإدانة دولية جادة، لم تصدر أي دولة غربية بيانًا يستنكر ما قاله نتنياهو، ولم تُستدعَ أي بعثة إسرائيلية للمساءلة، بل على العكس، تواصل الولايات المتحدة تزويد كيان الاحتلال الاسرائيلي بالسلاح والذخيرة، وتعرقل أي قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار.
هذا الصمت المطبق من العواصم الغربية يُعد في ذاته تواطؤًا قانونيًا وأخلاقيًا، فالقانون الدولي لا يحمّل المسؤولية فقط لمن ارتكب الجريمة، بل أيضًا لمن شارك في تسهيلها أو دعمها أو تغاضى عنها، والدعم العسكري والمالي والسياسي الذي تقدمه واشنطن وتبرره أوروبا يُحوّلهم من "شهود" إلى "شركاء" في الجريمة.
غزة.. حيث تحوّل البشر إلى أهداف
تُظهر التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان أن أكثر من 70% من ضحايا القصف الإسرائيلي في غزة هم من المدنيين، بينهم عشرات الآلاف من الأطفال، ولم تسلم أي منطقة من القصف: لا المستشفيات، ولا المدارس، ولا الملاجئ، ولا مخيمات اللاجئين.
حين تُسوى أحياء كاملة بالأرض، وحين يُقصف مستشفى الشفاء ومجمع النصر الطبي ومراكز الأونروا، فإن الحديث عن "أخطاء" أو "أضرار جانبية" يصبح سخيفًا، هذه ليست حربًا بين جيشين، بل مجزرة ممنهجة ضد المدنيين، هدفها تدمير كل ما يمكن أن يُبقي على الحياة في غزة.
حتى الأمم المتحدة وصفت المشهد بوضوح: غزة لم تعد مكانًا صالحًا للحياة. فالقصف الإسرائيلي لم يدمر المباني فقط، بل قضى على مقومات البقاء الإنساني — الماء، الكهرباء، الدواء، والغذاء.
الإبادة كسياسة ممنهجة… لا كفعل عابر
منذ بداية العدوان على غزة، اتبع نتنياهو وحكومته خطابًا واضحًا يستهدف شيطنة الشعب الفلسطيني بأكمله، وليس حركة حماس فقط، وقد تسربت عشرات التصريحات من وزراء ومسؤولين إسرائيليين تدعو إلى "محو غزة" و"قطع رؤوس الأطفال" و"تهجير السكان إلى سيناء".
هذه اللغة ليست عفوية، بل تعبّر عن إيديولوجيا استعمارية تعتبر الفلسطينيين عقبة ديموغرافية يجب التخلص منها، وبالتالي فإن القصف الكثيف الذي تفاخر به نتنياهو ليس "ردًا عسكريًا"، بل جزء من استراتيجية تطهير عرقي شاملة تهدف إلى إعادة رسم خريطة الوجود الفلسطيني.
وقد أظهرت تقارير موثقة أن الجيش الاحتلال الإسرائيلي استخدم أنواعًا من القنابل ذات قوة تدميرية غير مبررة في المناطق المدنية، منها القنابل الارتجاجية وقنابل الفسفور الأبيض المحظورة دوليًا، في خرق صريح لاتفاقيات جنيف.
دعم أمريكي بلا حدود… وتواطؤ دولي مفضوح
في الوقت الذي يتفاخر فيه نتنياهو بجرائمه، تواصل الولايات المتحدة إرسال شحنات الأسلحة والمساعدات العسكرية إلى كيان الاحتلال الاسرائيلي، الإدارة الأمريكية لم تكتفِ بتبرير القصف، بل منعت مرارًا وتكرارًا أي قرار أممي يطالب بوقفه، بل إن البيت الأبيض أعلن صراحة أن "إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها"، متجاهلًا أن الدفاع لا يكون بإبادة شعب بأكمله.
هذا الموقف الأمريكي لم يعد مجرد دعم سياسي، بل أصبح مشاركة فعلية في الجريمة. فالقانون الدولي يعتبر تزويد أي طرف بأسلحة تُستخدم في ارتكاب جرائم حرب مشاركة في الفعل ذاته، ومع ذلك، فإن واشنطن تمضي في غيّها، مدفوعة بحسابات انتخابية وضغوط لوبيات صهيونية لا ترى في الدم الفلسطيني إلا وقودًا لحملاتها.
أما أوروبا، فقد كشفت عجزها الأخلاقي الكامل، دول مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا تتحدث عن "الحق في الدفاع" بينما تشاهد أطفال غزة يُنتشلون من تحت الركام، ونساءها يفترشن التراب أمام المستشفيات المدمرة.
محكمة لاهاي… هل ستتحرك أخيرًا؟
إن اعتراف نتنياهو العلني بإلقاء 153 طنًا من المتفجرات على غزة يجب أن يكون نقطة تحول في مسار العدالة الدولية، فالمحكمة الجنائية الدولية التي فتحت بالفعل تحقيقًا أوليًا في جرائم الحرب الإسرائيلية باتت تملك الآن اعترافًا رسميًا موثقًا من رأس الهرم السياسي في كيان الاحتلال الاسرائيلي.
هذا الاعتراف لا يترك مجالًا للمماطلة أو التذرع بـ"تعقيدات التحقيق"، بل يُلزم المحكمة — أخلاقيًا وقانونيًا — بإصدار مذكرة توقيف فورية بحق نتنياهو وكل من تورط في إصدار الأوامر أو تنفيذها، وإذا كانت المحكمة قد تحركت بسرعة ضد قادة من دول أفريقية أو من روسيا، فإن العدالة تفقد معناها إن لم تُطبَّق المعايير ذاتها على قادة الاحتلال الإسرائيلي.
العالم أمام لحظة اختبار أخلاقي
اعتراف نتنياهو ليس مجرد تصريح عابر في مشهد سياسي متوتر، بل هو وصمة عار في جبين النظام الدولي بأسره، فإذا مرّ هذا الاعتراف دون محاسبة، فإن ذلك يعني ببساطة أن القانون الدولي لم يعد سوى أداة انتقائية تُستخدم ضد الضعفاء فقط.
إن 153 طنًا من المتفجرات ليست مجرد أرقام في ميزان المعركة، بل هي 153 طنًا من الموت والرماد والدموع سقطت على رؤوس أطفال ينامون في أحضان أمهاتهم. هي أطنان من البارود الذي مزق أرواح الأبرياء، وأحلام جيل كامل كان يحلم بالنجاة فقط.
ختام القول
من على منبر الكنيست، أعلن نتنياهو بفخر عن جريمته، وكأنه يدوّنها في سجل "إنجازاته السياسية"، لكنه في الحقيقة كتب بيده وثيقة إدانته التاريخية، فالتاريخ لا يرحم، والعدالة قد تتأخر، لكنها لا تموت.
إن غزة التي أُغرقت في 153 طنًا من المتفجرات لم تُهزم، بل أصبحت رمزًا خالدًا للمقاومة والصمود في وجه واحدة من أبشع آلات القتل الحديثة، أما نتنياهو ومن دعموه، فمهما طال الزمن، ستلاحقهم العدالة الدولية والذاكرة الإنسانية كأكبر مجرمي حرب عرفهم العصر الحديث.