الوقت- مع انطلاق جولة جديدة من المحادثات بين ممثلي حركة حماس والكيان الإسرائيلي في مصر، بهدف تنفيذ بنود خطة دونالد ترامب، لا يزال الطريق إلى اتفاق محتمل بين الجانبين يبدو صعبًا وغامضًا، ويُعتبر اختلاف الآراء حول كيفية تنفيذ وقف إطلاق النار، ومسألة انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، وتبادل الأسرى، من أهم العقبات التي تعترض المحادثات، رغم دعم حماس لخطة ترامب المقترحة، إلا أنها وضعت خطوطًا حمراء للحفاظ على مبادئها التي تعتبرها حيوية لتحقيقها على طاولة المفاوضات.
ومن أهم مطالب حماس إطلاق سراح ستة أسرى فلسطينيين، وعلى رأسهم مروان البرغوثي، وهو طلب ترفضه حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، وتحاول تحديد قائمة الأسرى بشكل انتقائي ومن جانب واحد، وقد أصبح إطلاق سراح البرغوثي بالغ الأهمية لدرجة أنه أثار معارضة شديدة من الجماعات المتطرفة في الأراضي المحتلة.
وكشفت القناة الإسرائيلية الرابعة عشرة أن نتنياهو، في اجتماع لمجلس الوزراء، ولإرضاء إيتمار بن غير، وزير الأمن الداخلي في الكيان، الذي يهدد يوميًا بالانسحاب من ائتلاف الكابي، تعهد بعدم إطلاق سراح أشخاص مثل البرغوثي، الذي يعتبره بن غير "رموزًا للإرهاب"، في إطار وقف إطلاق نار محتمل في غزة، هذا الموقف ليس نابعًا من عناد سياسي، بل من خوف سلطات تل أبيب العميق من العواقب المحتملة لإطلاق سراح شخص قد يُغير موازين القوى في الأراضي المحتلة تمامًا.
من هو مروان البرغوثي؟
وُلد مروان البرغوثي عام ١٩٥٩ في قرية كوبر شمال رام الله. انضم إلى النضال ضد الاحتلال في سن المراهقة، وانضم إلى حركة فتح في شبابه. اعتُقل عدة مرات على يد قوات الأمن الصهيونية في ثمانينيات القرن الماضي، لكنه بعد إطلاق سراحه أصبح من أبرز الشخصيات الفاعلة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى. في عام ٢٠٠٢، اعتقلته قوات الجيش الصهيوني في عملية خاصة برام الله، وبعد محاكمة صورية، حُكم على البرغوثي بخمسة أحكام بالسجن المؤبد. ومنذ ذلك الحين، أصبح رمزًا للاستقرار والوحدة والأمل للشعب الفلسطيني في السجون الصهيونية، بالإضافة إلى مهاراته التنظيمية، يُعرف البرغوثي بأنه من القادة القلائل الذين يتمتعون بقبول واسع من جميع التيارات السياسية الفلسطينية، بما في ذلك حماس، وقد جعلته شعبيته الواسعة بين مختلف شرائح الشعب الفلسطيني والفصائل السياسية أحد الخيارات الرئيسية للقيادة المستقبلية للحركات الفلسطينية، ووفقًا لنتائج استطلاع رأي أُجري في ديسمبر 2023، حصل البرغوثي على أعلى مستوى من الدعم الشعبي بين جميع المرشحين المحتملين.
لماذا تعارض "إسرائيل" إطلاق سراح البرغوثي؟
السبب الرئيسي لعناد القادة الصهاينة في معارضة إطلاق سراح البرغوثي هو قلقهم العميق من تأثيره المحتمل على المعادلات الداخلية لفلسطين والمنطقة، وقد أثبتت التجربة أن إطلاق سراح قادة ذوي كاريزما عالية يمكن أن يُحدث تحولًا في معادلات تل أبيب الأمنية.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك "يحيى السنوار"، الذي أُطلق سراحه بعد سنوات من الأسر في سجون الاحتلال الإسرائيلي ضمن صفقة تبادل أسرى، وبعد سنوات، وبتخطيطه لعملية "عاصفة الأقصى"، وجّه أكبر ضربة عسكرية ونفسية في تاريخ الكيان الصهيوني، وقد صرّح مسؤولو تل أبيب مرارًا وتكرارًا بأن إطلاق سراح السنوار كان خطأً استراتيجيًا لا ينبغي تكراره، ومن وجهة نظر الاحتلال، يمتلك البرغوثي الإمكانات نفسها ليصبح "سنوارًا ثانيًا" في المستقبل، وبخبرته السياسية وقبوله الشعبي، يُمهّد الطريق لتشكيل حركة أشمل ضد الاحتلال، البرغوثي أيضًا شخصٌ قادر على توحيد المقاومة ودمجها، ليس فقط على الصعيد العسكري، بل على الصعيد السياسي أيضًا.
وتُدرك حكومة نتنياهو جيدًا أن البرغوثي، على عكس العديد من القادة الفلسطينيين، تمكّن من بناء جسر بين مختلف فصائل المقاومة، وحتى المؤسسات الدولية. في نظر الكثير من الفلسطينيين، يُعتبر رمزًا لوحدة المقاومة القادرة على رأب الصدع بين حماس وفتح، وبناء جبهة موحدة ضد الصهيونية، ويُعدّ هذا التوحيد كابوسًا لتل أبيب، لأن وجود هذا الكيان قائمٌ إلى حدٍّ كبير على الانقسامات بين الفصائل الفلسطينية، ويدرك كيان الاحتلال جيدًا أنه إذا أُطلق سراحه، فلن يتمكن بعد الآن من استغلال الصراعات الداخلية الفلسطينية لتعزيز سياساته التفرقة.
إن خوف تل أبيب من إطلاق سراح قادة فلسطينيين بارزين كبير لدرجة أنه في مفاوضات وقف إطلاق النار الأخيرة، ورغم إطلاقها سراح بعض قادة حماس وفتح المحكوم عليهم بالسجن المؤبد، اشترطت عدم السماح لهم بالعودة إلى غزة أو الضفة الغربية، ونقلهم إلى تركيا ومصر. إن سياسة النفي القسري هذه هي في الواقع محاولة لإفراغ الأراضي الفلسطينية من القادة الملهمين ومنع إعادة تنظيم المقاومة.
من ناحية أخرى، فإن الهجوم الأخير الذي شنه الجيش الصهيوني على قطر بهدف اغتيال قادة حماس هو أيضًا جزء من هذه الاستراتيجية الأوسع نطاقًا التي تسعى إلى إضعاف حركة المقاومة من الداخل من خلال القضاء على الشخصيات الكاريزماتية، في ظل هذه الخلفية، من الواضح أن إطلاق سراح شخصية مثل البرغوثي يُنظر إليه على أنه تهديد وجودي لنتنياهو وحلفائه.
إن حكومة نتنياهو، التي تهيمن عليها الحركات اليمينية المتطرفة، لا تسعى فقط إلى نزع سلاح الفصائل الفلسطينية، بل حددت هدفها النهائي بالتدمير الكامل لبنية المقاومة، من وجهة نظر نتنياهو، فإن أي مرونة في الاستجابة لمطالب حماس، بما في ذلك إطلاق سراح سجناء بارزين، تعني تراجعًا استراتيجيًا، وستشجع فصائل المقاومة على مواصلة القتال، وبعد تجربة حرب غزة وعواقبها المدمرة على الجيش، خلص مسؤولو الأمن الصهاينة إلى أنه لا ينبغي إطلاق سراح كبار القادة الفلسطينيين مهما كلف الأمر، وأصبح هذا المنظور الأمني جزءًا من العقيدة الرسمية لتل أبيب.
ووفقًا لبعض المراقبين، فبالإضافة إلى الاعتبارات الأمنية، هناك أيضًا أسباب سياسية ودعائية وراء معارضة تل أبيب لإطلاق سراح البرغوثي، يحاول نتنياهو، الذي يواجه أزمات سياسية واسعة النطاق واحتجاجات شعبية في الداخل، الحفاظ على دعم الحركات المتطرفة من خلال تبني مواقف متشددة تجاه الفلسطينيين، وهو يعلم جيدًا أن المرونة في قضية إطلاق سراح البرغوثي قد يفسرها خصومه السياسيون على أنها علامة ضعف، وقد تُقوّض موقفه.
من ناحية أخرى، يحاول الكيان الصهيوني استخدام البرغوثي كورقة ضغط في المفاوضات المستقبلية من خلال استمرار سجنه، إن إبقاء شخصية كهذه في السجن ورقة رابحة يمكن استغلالها في صفقات سياسية مستقبلية، في النهاية، يبدو أنه طالما بقي نتنياهو واليمين المتطرف في السلطة، فإن احتمال إطلاق سراح البرغوثي ضئيل للغاية، ولكن كما أثبت التاريخ الفلسطيني مرارًا وتكرارًا، لا يمكن كبح إرادة الشعوب إلى الأبد، ورغم أن البرغوثي يقبع في السجن اليوم، إلا أن أفكاره ورسائله لا تزال حيةً وراء الجدران الخرسانية، في عقول وقلوب ملايين الفلسطينيين، وهي فكرة قد تصبح عاجلًا أم آجلًا التهديد الأخطر لوجود كيان الاحتلال.