الوقت- بعد أكثر من عامين من الحرب الضارية على قطاع غزة، تتجه المنطقة نحو مرحلة جديدة من التقييم وإعادة الحسابات. تصريحات قيادات حركة حماس كحسام بدران وعزت الرشق تؤكد التمسك بسلاح المقاومة واستعداد الحركة لأي مواجهة محتملة، في الوقت الذي تعترف فيه أقلام صهيونية وازنة بأن حماس نجحت في تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، حيث فشلت السلطة الفلسطينية، وأعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي. وبينما تتواصل الاستعدادات لتوقيع اتفاق الهدنة في شرم الشيخ، يبدو المشهد محكومًا بثنائية دقيقة: مقاومة لا تتخلى عن سلاحها، وخصمٍ بات يعترف ضمنيًا بفشل رهاناته على إضعافها أو إقصائها. هذا المقال يحاول قراءة التفاعل بين الموقفين، الفلسطيني المقاوم والصهيوني المتراجع، من خلال تحليل موازين القوة الجديدة، وسؤال المستقبل: هل أصبحت المقاومة الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه في معادلة ما بعد الحرب؟
حماس وتحدي ما بعد النار
منذ اللحظات الأولى لوقف إطلاق النار، شددت قيادة حماس على أن “السلاح ليس ملك الحركة وحدها، بل هو حق الشعب الفلسطيني بأسره”. هذا التصريح الذي أطلقه حسام بدران لم يكن مجرد موقف عاطفي، بل تأكيد استراتيجي على أن نزع السلاح لن يكون بندًا في أي اتفاق. فالمقاومة ترى في السلاح هويةً وحقًّا طبيعيًا، وليس عبئًا سياسيًا يُساوَم عليه. هذا الموقف يعبّر عن فلسفة الحركة في التعامل مع أي مرحلة تفاوضية قادمة: السلاح هو الضمانة الوحيدة لبقاء الفلسطينيين أصحاب قرارٍ مستقل. وفي الوقت ذاته، يُدرك الصهاينة هذه الحقيقة جيدًا، إذ اعترف محللون في تل أبيب بأنّ الحديث عن “تفكيك سلاح حماس” هو مجرد وهم سياسي. فالاحتلال يدرك أنّ أي محاولة لنزع هذا السلاح ستعني إشعال جولة جديدة من الصراع، لأن المقاومة الفلسطينية بنت عقيدتها على الردع، لا على الاستسلام، وعلى فكرة أن امتلاك السلاح هو التعبير الأوضح عن الكرامة والسيادة الوطنية.
المرحلة الثانية من الهدنة – صراع الدبلوماسية والواقع
تصف حماس المرحلة الثانية من المفاوضات بأنها ستكون “أكثر تعقيدًا وصعوبةً”. فالقضايا المطروحة ليست إنسانية فقط، بل تمس جوهر الصراع: الأمن، الأسرى، والسيادة. حسام بدران أوضح أن هذه المرحلة لن تكون كالأولى، بل تحتاج إلى حوار وطني فلسطيني شامل قبل أي اتفاق دولي. في المقابل، يحذّر محللون صهاينة من أن المفاوضات الجارية لا يمكن أن تغيّر ميزان القوى على الأرض، لأن حماس، رغم الدمار، لم تفقد قدرتها التنظيمية ولا بنيتها العسكرية. هذا التوازن يجعل من أي تسوية قادمة معركة جديدة من نوعٍ آخر — معركة سياسية ودبلوماسية لا تقل خطورة عن الحرب الميدانية. وإذا كانت حكومة الاحتلال الإسرائيلي تراهن على دعم واشنطن لصياغة اتفاق يقيّد المقاومة، فإنّ حماس تراهن على الوقت، وعلى قدرتها على فرض واقع ميداني جديد يجعلها شريكًا لا يمكن تجاوزه في أي صيغة للحل النهائي.
اعتراف الخصم .. حماس نجحت حيث فشلت السلطة
التحليل الذي نشره الكاتب الصهيوني حاييم ليفنسون في صحيفة “هآرتس” يعكس تغيرًا نوعيًا في المزاج الصهيوني. فبعد حربٍ طويلة، يعترف الرجل بأن حماس حققت ما عجزت عنه السلطة الفلسطينية التي تعاونت مع الاحتلال. ويقول بوضوح إنّ الحركة أنهت المعركة بإنجازين محوريين: إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام الدولي، وتحرير عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين من السجون الصهيونية. هذه الاعترافات ليست هامشية، بل تعني أن إسرائيل خسرت “المعركة الرمزية”، رغم قوتها العسكرية. فحماس استطاعت أن تفرض سرديتها على المشهد، وأن تُعيد تعريف النصر بمعاييره الفلسطينية لا بمعايير القوة النارية. في حين أن السلطة التي راهنت على التفاوض والمقايضة السياسية فقدت مكانتها أمام شعبٍ يرى في المقاومة درع الكرامة الوطنية. هذا الفارق بين نهج الميدان ونهج التنسيق الأمني هو الذي جعل حماس اليوم اللاعب الأقوى في المعادلة الفلسطينية.
المقاومة في وعي العدو
يرى المحلل العسكري في صحيفة “معاريف”، آفي أشكنازي، أن من يظن أن حماس تحوّلت من “نمر إلى خروف” بعد الحرب فهو واهم. فالحركة ما زالت تمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة والأنفاق، ولا أحد في الكيان الصهيوني يمتلك تقديرًا دقيقًا لقوتها الحقيقية. ويضيف أن جيش الاحتلال يجب أن يبقى في جاهزيةٍ دائمة لمنع حماس من إعادة بناء قوتها. هذه القراءة العسكرية تحمل اعترافًا مبطّنًا بأنّ تدمير بنية المقاومة بالكامل أمر مستحيل، وأنّ الردع أصبح متبادلًا. فحكومة الاحتلال باتت تدرك أن أي مغامرة عسكرية جديدة ستكون مكلفة سياسيًا وأمنيًا، بينما تستفيد حماس من كل جولةٍ في تطوير خبراتها القتالية والإعلامية. هذا التحول جعل المواجهة القادمة — إن حدثت — أقل ميلًا للحسم وأقرب إلى “توازن الخوف”، حيث لا أحد قادر على إلغاء الآخر. وهنا بالضبط تكمن معادلة الردع الجديدة التي فرضتها المقاومة بدماء مقاتليها وصمود شعبها.
البعد الإنساني والسياسي ..غزة بين الركام والأمل
على الرغم من حجم الدمار الهائل في قطاع غزة، إلا أن قيادة حماس تحاول اليوم توجيه خطابها نحو العمل الإنساني وإعادة الإعمار. عزت الرشق أكد أن الحركة تضع كل إمكاناتها في خدمة المدنيين، وتسعى بالتنسيق مع أطراف دولية لإدخال المساعدات الإنسانية ومتابعة تنفيذ بنود الهدنة. هذه التحركات تُظهر إدراكًا سياسيًا بأنّ النصر العسكري وحده لا يكفي إن لم يُترجم إلى حياة كريمة للناس. وفي المقابل، يراقب المجتمع الدولي عن كثب أداء حماس في هذا الملف باعتباره اختبارًا لمصداقيتها السياسية. إذا نجحت الحركة في تحقيق انفراجٍ إنساني ملموس، فسترسخ مكانتها كقيادة مسؤولة، لا كفصيل مقاوم فحسب. لكنّ هذا الطريق مليء بالتحديات: الحصار المستمر، ضعف التمويل، واشتراطات المانحين. وبين مقاومةٍ لا تتخلى عن السلاح وحاجةٍ ماسة لإعادة بناء الحياة، تسعى حماس اليوم لصياغة معادلة “السلاح والإعمار” كوجهين لمستقبلٍ فلسطينيٍّ واحد.
في الختام، تكشف قراءة الموقفين — الفلسطيني المقاوم والصهيوني المأزوم — أن الحرب الأخيرة لم تنتهِ بانتصار عسكري حاسم لأي طرف، لكنها انتهت بتغييرٍ جذري في قواعد اللعبة. فحماس خرجت من المعركة بثباتٍ سياسي وشرعيةٍ وطنية متجددة، بينما وجدت إسرائيل نفسها أمام خصمٍ لا يُهزم بالحديد والنار. ما بين خطوط النار وأروقة المفاوضات، أعادت الحركة صياغة مفهوم “النصر” ليصبح قدرةً على البقاء والتأثير لا مجرد سيطرةٍ ميدانية. أما إسرائيل، فبدت عاجزة عن تحويل تفوقها العسكري إلى مكسب سياسي ملموس، بعدما اعترف محللوها بأنّ حماس أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة وأفشلت مشروع التطبيع الذي أراده نتنياهو بديلًا عن الحلّ العادل. المرحلة المقبلة لن تُقاس بعدد البنود التي تُوقَّع في شرم الشيخ، بل بمدى قدرة الأطراف على ترجمة الهدنة إلى واقعٍ جديد يوازن بين الأمن والسيادة والكرامة الإنسانية. في هذا الواقع، تظل المقاومة — بسلاحها وإصرارها — عنوان الصمود الفلسطيني، والرقم الذي لا يمكن تجاوزه في معادلة الشرق الأوسط القادمة.