الوقت- لم يكن الاعتذار الذي قدّمه رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى قطر حدثاً عادياً في سياق العلاقات السياسية المعقّدة في المنطقة، بل كان محطة كاشفة لطبيعة الحسابات التي تديرها الدوحة من جهة، وللنوايا الحقيقية للكيان من جهة أخرى، فالغارة الإسرائيلية على العاصمة القطرية الدوحة في التاسع من سبتمبر 2025 لم تكن مجرد خطأ عابر أو حادثة يمكن تجاوزها باعتذار بروتوكولي.
لقد أسفرت عن سقوط ضحايا بينهم مواطن قطري، وأدّت إلى انتهاك صارخ للسيادة الوطنية، ما شكّل صدمة للرأي العام القطري والعربي، وأثار موجة من الغضب تجاه الاستهتار الإسرائيلي بالقوانين الدولية وبالحدود السيادية للدول، ومع ذلك، ما لبثت الحكومة القطرية أن تعاملت مع الاعتذار الإسرائيلي بليونة لافتة، مكتفية بتأكيد أن الاعتذار "ليس منّة بل حق"، ومشترطة ضمانات عامة غامضة لعدم تكرار مثل هذا الفعل، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول جدوى هذه السياسة وما إذا كانت الدوحة قدّمت تنازلاً غير مبرر للكيان الذي اعتاد التنصل من التزاماته.
سجل "إسرائيل" الحافل بالانتهاكات
إن المشكلة الكبرى لا تكمن فقط في الاعتداء بحد ذاته، بل في السياق الذي يجري فيه، فالكيان الإسرائيلي لديه سجل طويل من الاعتداءات على أراضي دول عربية وإسلامية تحت ذرائع مختلفة، بدءاً من قصف مواقع في سوريا ولبنان، وصولاً إلى عمليات استهداف متكررة في العراق والسودان وحتى تونس، ومن هنا فإن الغارة على الدوحة ليست استثناءً بل استمرار لنهج ثابت يقوم على فرض منطق القوة واعتبار السيادة الوطنية للدول الأخرى مجرد تفاصيل يمكن تجاوزها عندما تقتضي المصلحة الإسرائيلية، فإذا كانت هذه هي القاعدة التاريخية، فما الذي يجعل قطر تثق في أن اعتذار نتنياهو هذه المرة سيكون مختلفاً؟ وهل هناك أي ضمان حقيقي بأن الطائرات الإسرائيلية لن تعود لتخترق الأجواء القطرية بذريعة استهداف شخصية أو مقر تابع لحركة المقاومة الفلسطينية؟
ليونة قطر تنازل أم براغماتية؟
إن قبول قطر بهذا الاعتذار بهذه السرعة والمرونة يثير علامات استفهام كثيرة، فبدلاً من التمسك بموقف صارم يربط الاعتذار بخطوات عملية واضحة مثل تعويض الضحايا أو توقيع اتفاق مكتوب بضمانات دولية، اكتفت الدوحة بعبارات عامة تطالب بعدم التكرار، وهو أمر سبق أن سمعناه مراراً من الاحتلال ولم يترجم على أرض الواقع، إن من يتابع تاريخ الكيان الصهيوني يدرك أنه لم يلتزم يوماً باتفاق أو عهد إلا حين يكون مضطراً ومجروح اليدين، أما الاعتذارات الشكلية فهي جزء من أدواته لكسب الوقت وامتصاص الغضب واحتواء المواقف الدولية حتى تهدأ العاصفة ثم تعود عجلة الانتهاكات لتدور من جديد.
الدور الأمريكي الخفي
الأمر المثير للانتباه هو أن الولايات المتحدة لعبت دوراً محورياً في ترتيب هذا الاعتذار، فقد كشفت تقارير إعلامية أن الرئيس الأمريكي ضغط على نتنياهو ليعتذر لقطر باعتبار أن أي اعتداء عليها يُعد تهديداً لأمن أمريكا وفق مرسوم تنفيذي صدر حديثاً، وبذلك تحوّل الاعتذار من كونه بادرة حسن نية إسرائيلية إلى كونه ثمرة ضغط أمريكي هدفه أولاً احتواء الأزمة وحماية المصالح الأمريكية في الخليج، وهذا يعني أن قطر قبلت اعتذاراً لم ينبع من قناعة إسرائيلية حقيقية بالخطأ، بل جاء نتيجة حسابات تكتيكية مرتبطة بعلاقتها بواشنطن، إن التساؤل هنا يطرح نفسه: إذا كان الكيان قد خضع لضغط أمريكي ليعتذر، فما الذي يضمن أنه لن يتجاوز مجدداً في حال تغيّر ميزان المصالح أو تبدّل أولويات البيت الأبيض؟
الوساطة على حساب السيادة
النقطة الأخرى التي تستحق التوقف عندها هي أن قطر بررت قبول الاعتذار بالحفاظ على دورها كوسيط في ملفات إقليمية معقدة مثل القضية الفلسطينية والمفاوضات حول غزة، غير أن هذا التبرير يبدو هشاً، إذ إن الحفاظ على الدور الوسيط لا يعني القبول بانتهاك السيادة، على العكس، كان يمكن للدوحة أن تعزز مكانتها الدبلوماسية أكثر لو تمسكت بموقف صلب يفرض على تل أبيب التزامات محددة وواضحة، لأنها بذلك ستبرهن أنها قادرة على الجمع بين الوساطة والتمسك بحقوقها الوطنية، أما المرونة المفرطة فقد تعطي انطباعاً بأن الدوحة مستعدة للتنازل عن خطوطها الحمراء من أجل الحفاظ على دورها في المسرح الإقليمي، وهو ما يضعف موقفها أمام الشعوب العربية التي ترى في السيادة والكرامة الوطنية قيماً غير قابلة للمساومة.
تناقض الاعتذار
ومن زاوية أخرى، فإن الاعتذار الإسرائيلي لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الخطاب المتكرر لنتنياهو الذي سبق الاعتداء، حيث اتهم قطر بأنها توفر ملاذاً آمناً لحركة حماس، هذه التصريحات لم تكن مجرد زلة لسان، بل جزء من منهجية إسرائيلية لتحميل الدوحة مسؤولية دعم المقاومة الفلسطينية، وبالتالي، فإن الاعتذار لا يمحو حقيقة أن العقل السياسي الإسرائيلي ينظر إلى قطر باعتبارها شريكاً غير مرغوب فيه، وأن أي تعهد بعدم الاعتداء سيبقى مشروطاً بتقلبات الموقف الإسرائيلي من علاقة الدوحة بحماس، وهذا يجعل الضمانات الإسرائيلية أشبه بخيط عنكبوت، قابلة للتمزق عند أول اختبار سياسي أو عسكري جديد.
ماذا لو تكرر الاعتداء؟
والسؤال الأخطر: ماذا لو تكرر الاعتداء؟ هل ستكتفي قطر مجدداً بالاعتراض الدبلوماسي واللجوء إلى بيانات الشجب والاستنكار؟ إن قبول الاعتذار دون وضع آليات واضحة للردع يفتح الباب واسعاً أمام "إسرائيل" لتكرار الفعل وهي مطمئنة إلى أن أقصى ما ستواجهه هو موجة غضب إعلامي مؤقت سرعان ما يُحتوى، وإذا كانت الولايات المتحدة قد تدخلت هذه المرة لحماية قطر، فهل يمكن ضمان تدخلها في كل مرة، وخصوصاً إذا ما تباينت أولوياتها في الشرق الأوسط أو تبدلت إدارتها السياسية؟ هذا الوضع يضع قطر في موقع هش، إذ تعتمد على مظلة حماية خارجية لا يمكن الوثوق بدوامها.
"إسرائيل" واعتذاراتها المضللة
إن "إسرائيل" في نهاية المطاف كيان قائم على منطق القوة والعدوان، وأي محاولة لإظهارها بمظهر المعتذر الضعيف الذي يسعى لتصحيح خطأه ليست سوى عملية تجميل إعلامية، فالاعتذار في الثقافة السياسية الإسرائيلية لا يعني الندم ولا الإقرار بالمسؤولية، بل يعني المناورة وكسب الوقت حتى تهدأ العاصفة. والتاريخ مليء بالأمثلة: كم مرة اعتذرت "إسرائيل" بعد قصف أهداف مدنية في لبنان أو غزة أو سوريا ثم عادت الكرة مرات ومرات؟ وكم مرة تحدثت عن "أخطاء غير مقصودة" بينما كانت تنفذ سياسة واضحة المعالم؟ لذلك، فإن تصديق اعتذار نتنياهو ليس سوى سذاجة سياسية، وقبول قطر به دون شروط صارمة يعادل التوقيع على شيك مفتوح لإسرائيل لتفعل ما تشاء متى أرادت.
الفرصة الضائعة للدوحة
لقد كان على قطر، إن أرادت حماية سيادتها بالفعل، أن ترفع سقف مطالبها إلى أبعد من مجرد الاعتذار، وأن تربط قبولها بخطوات عملية ملموسة: تعويض الضحايا، التزام مكتوب بضمانات دولية، آليات مراقبة مشتركة مع أطراف محايدة، وربما حتى مساءلة "إسرائيل" في المحافل الدولية، أما الاكتفاء بقبول اعتذار هاتفي بضغط أمريكي فهو في الحقيقة انتقاص من قيمة السيادة الوطنية التي يجب أن تكون خطاً أحمر لا يُمس.
في المحصلة، يظهر الاعتذار الإسرائيلي لقطر كحدث يخدم صورة نتنياهو أمام واشنطن أكثر مما يخدم مصالح الدوحة، ويكشف قبول قطر السريع به عن خلل في ميزان الحسابات السياسية، إذ غلّبت حرصها على دور الوساطة على حساب صيانة سيادتها وكرامتها الوطنية، أما الكيان الإسرائيلي، فقد خرج من الأزمة من دون أن يدفع ثمناً حقيقياً، بل أضاف إلى سجلّه سابقة جديدة تؤكد أن بإمكانه الاعتداء على عاصمة عربية ثم الاكتفاء باعتذار شكلي لا يغيّر من جوهر سياسته القائمة على العدوان والتوسع، وفي ظل هذا الواقع، فإن أي رهان على نوايا "إسرائيل" أو صدق التزاماتها ليس إلا وهماً خطيراً، وسيبقى تكرار الاعتداء احتمالاً قائماً ما لم تبادر قطر إلى تبني موقف أكثر صرامة يعيد التوازن إلى المعادلة ويضع حداً لاستهتار الكيان الصهيوني بسيادة الدول.