الوقت- في الساعة السادسة والثانية والعشرين مساءً، حين كانت الشمس تؤذن بالمغيب في يوم الجمعة السابع والعشرين من سبتمبر عام 2024، انهالت طائرات الكيان الصهيوني الحربية بوابل من القنابل الخارقة للتحصينات، ناهز عددها خمساً وثمانين قنبلة، يزن كل منها طناً من المواد المتفجرة، فأمطرت بها مجمعاً سكنياً في حارة حريك بالضاحية الجنوبية لبيروت، أسفر هذا القصف الوحشي عن تدمير ستة مبانٍ بالكامل، وارتقاء السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، إلى مقام الشهادة، مصطحباً معه ثلةً من معاونيه، والعميد عباس نيلفروشان، المستشار العسكري الإيراني.
في قلب الضاحية
في ذلك الفجر المشؤوم الذي استحالت فيه الضاحية الجنوبية لبيروت إلى بؤرة للهول والاضطراب، كانت أنوار غرفة عمليات حزب الله تشقّ ظلمة الليل، كان السيد حسن نصر الله، قائد المقاومة الإسلامية في لبنان، منهمكاً في الإشراف شخصياً على دفة التنسيقات، كما دأب في أيام حرب الثلاثة والثلاثين يوماً، تتوالى على طاولته التقارير اللحظية من ميادين النزال، وأخبار تحركات العدو الجوية والبحرية، وأحوال فصائل المقاومة في غزة والحدود الجنوبية للبنان، كانت الغرفة تعجّ بأجهزة اللاسلكي والخرائط العسكرية وشاشات المراقبة التي ترسم مواقع الوحدات المقاتلة، لم يخطر ببال أحد من حلقة المقربين في ذلك اليوم أن الضاحية ستشهد بعد ساعات معدودة واحدةً من أعنف الهجمات الجوية الإسرائيلية، وأن التاريخ سيسجّل نقطة تحول فارقة في مسار المنطقة بأكملها.
هجوم القنابل الفتاكة
انطلق سرب مهيب مؤلف من عشر طائرات من طراز إف-15 إيغل من السرب التاسع والستين، المعروف بـ"سرب هامر"، من قاعدة حتساريم الجوية، المشهورة بالقاعدة السادسة، وبعد هنيهات من الظهيرة، دوت صفارات الإنذار الأولى مدويةً في جنوب بيروت، ظهرت طائرات الموت الإسرائيلية تحلق في سماء المدينة، لكنها هذه المرة كانت تحمل في أحشائها ذخيرةً مختلفةً: قنابل جبارة خارقة للتحصينات، مصممة لاختراق الهياكل الخرسانية والمنشآت المدفونة في باطن الأرض، بلغت أهمية الهدف حداً دفع قائد المجموعة الجوية المنفذة للهجوم، إلى الإفصاح بأن الطيارين لم يُحاطوا علماً بتفاصيل المهمة إلا قبل الإقلاع بوقت وجيز، وظلوا في غياهب الجهل بماهية الهدف حتى تلك اللحظة.
وبعد برهة وجيزة، هزّت الضاحية بأكملها سلسلة من الانفجارات المتتالية المروعة، فاكتست أجزاء شاسعة من المنطقة بسحابة من الدخان الكثيف الذي حجب نور النهار، تعرض المبنى الذي كان يأوي السيد، والذي اشتهر بكونه مركز قيادة المعركة، لضربة مباشرة أحالته إلى ركام، بلغت شدة الانفجار من العنف حداً دفع بالسكان إلى الخروج من منازلهم حتى في الأحياء النائية، ووفقاً للتقارير الواردة، كانت هزات الانفجارات وأصداؤها من القوة بحيث شُعر بها وسُمعت على مسافة تناهز الثلاثين كيلومتراً.
وفي اللحظة ذاتها، سارعت وكالات الأنباء الإسرائيلية، ناقلةً عن المتحدث باسم جيش الاحتلال، بنبرة تشي بالنشوة والظفر، إلى الإعلان عن “هجوم ناجح على غرفة عمليات حزب الله”، وقالت الإذاعة الإسرائيلية نقلاً عن مصدر عسكري إن ثمة دلائل تشير إلى إصابة نصر الله في تلك الانفجارات، وبعد دقائق معدودة تجاسرت المصادر العبرية على الادعاء بأن “نصر الله لقي حتفه”.
ساعات الترقب والانتظار
على الرغم من ادعاءات تل أبيب المتسرعة، خيّم صمت ثقيل على أروقة حزب الله، لم يكن يُسمع في سماء بيروت سوى صفير سيارات الإسعاف وهدير المروحيات الإغاثية، امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بشائعات متضاربة: فتارة يُكتب عن “إصابة السيد”، وتارة أخرى يُشاع نبأ نقله إلى ملاذ أكثر أماناً، في تلك الساعات العصيبة، اكتفت المصادر المقربة من المقاومة بترديد عبارة وحيدة موجزة: “ترقبوا البيان الرسمي”، هذا الانتظار المحموم أغرق لبنان في حالة من التعليق التاريخي؛ فامتلأت شوارع بيروت وصيدا وبعلبك بجموع من المواطنين القلقين الذين تسمّرت أبصارهم على شاشات التلفزة، يترقبون الحقيقة بقلوب واجفة.
الرواية الإسرائيلية وأولى الشرارات
في تل أبيب، أعلن المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي بزهو بالغ أن “القوات الجوية نفذت عمليةً بالغة الدقة، نجحت في تحديد مخبأ نصر الله وتدميره”. وصرح ناداف شوشاني، الناطق باسم الجيش الصهيوني، عبر منصة إكس بأن “حسن نصر الله قُتل”، كما زعم أفيخاي أدرعي، المتحدث العربي باسم جيش الاحتلال، على المنصة ذاتها أن قواتهم أردت حسن نصر الله وعلي كركي، قائد الجبهة الجنوبية لحزب الله، وكوكبة أخرى من قياداته، وراحت وسائل الإعلام العبرية تبثّ لقطات الانفجار وتتصدر صفحاتها بعناوين مدوية: “انطفاء شمس السيد”.
عقد نتنياهو اجتماعاً استثنائياً لمجلس الوزراء الأمني، ولما سأله مراسل القناة الثانية عشرة في الكيان الصهيوني عما إذا كان “اغتيال السيد حسن نصر الله قد تكلل بالنجاح أم لا؟” اكتفى بالقول: انتظروا.
وفي خضم هذا المشهد المضطرب، لم يخفِ المحللون الإسرائيليون شكوكهم، مؤكدين أنه في غياب الأدلة الملموسة، لا يمكن الجزم بصحة نبأ مصرع الأمين العام لحزب الله، وحتى بعد ساعات من عملية الاغتيال، واصل الصهاينة قصف العديد من الملاجئ بالأسلوب ذاته، ما يوحي بأن قادة تل أبيب لم يكونوا على يقين تام من نتيجة الهجوم، وأفادت السلطات اللبنانية باكتشاف عدد غير محدد من القنابل الخارقة للتحصينات التي لم تنفجر من طراز GBU-39 وBLU-109 في منطقتي الليلكي والأجنحة الخمسة بالعمروسية.
البيان الرسمي وإعلان الفاجعة
بعد ساعات من الترقب المضني والتكهنات المحمومة، صدر أخيراً البيان الرسمي لحزب الله، في هذا البيان، بلهجة تنمّ عن الصمود والثبات، تم تأكيد نبأ استشهاد السيد حسن نصر الله، وصفه نص البيان بأنه “العبد الصالح، سيد المقاومة والشهيد علی طريق القدس”، في لحظة واحدة، تحولت شوارع لبنان، من الضاحية الجنوبية إلى سهول البقاع، إلى مسرح للنحيب والحداد والهتافات الغاضبة ضد الکيان الصهيوني، اختلطت أصوات طلقات الحداد التي أطلقها الأهالي بزفرات الألم؛ وانطوت صفحة من التاريخ لتفتح صفحة جديدة دفعت بلبنان والمنطقة برمتها نحو مرحلة غير مسبوقة.
وفي وقت لاحق، كشف محمود قماطي، نائب رئيس المجلس السياسي لحزب الله، عن تفاصيل اللحظات الأولى للعثور على جثمان السيد قائلاً: “كان المكان الذي عُثر فيه على جثمان السيد، مشبعاً بالغازات الخانقة، كانت عناصر الدفاع المدني أول من وصل إلى جثمان السيد الشهيد، أحدهم، من فرط تعلقه بالسيد، نزع قناع الأكسجين عن وجهه ووضعه على فم السيد، أملاً في إنقاذ حياته، ذلك الرجل الذي دفعه فيض محبته للسيد إلى هذا الفعل، ارتقى هو الآخر شهيداً في تلك اللحظة إلى جوار جثمان الشهيد نصر الله”.
يوم غيّر وجه التاريخ
لم يكن يوم استشهاد السيد حسن نصر الله مجرد عملية اغتيال عسكرية؛ بل كان زلزالاً سياسياً ونفسياً واجتماعياً تجاوزت ارتداداته حدود لبنان، بالنسبة للكيان الصهيوني، على الأقل في الرواية الرسمية، تم تسويق هذا الحدث على أنه “أعظم انتصار”، لكن بالنسبة لشعوب المنطقة، تحول استشهاد السيد إلى أيقونة جديدة للمقاومة ورمز للفداء، ما جرى في الضاحية من الفجر إلى العشاء في ذلك اليوم المشهود - من وجوده في غرفة العمليات إلى لحظة سقوط القنابل الخارقة للتحصينات، من الشائعات الإعلامية المحمومة إلى البيان الرصين لحزب الله - هو ملحمة تروي تلاقي الدم مع التاريخ، ونقطة تحول مفصلية غيّرت مسار مستقبل لبنان وفلسطين وحتى المعادلات الأمنية في المنطقة بأسرها.