الوقت- في غمرة انشغال المحافل الدولية بالضغط لوقف آلة الحرب الصهيونية المتوحشة على غزة، وإيصال قوافل الإغاثة الإنسانية سعياً للحيلولة دون وقوع المأساة الكبرى، تعمد حكومة المتطرف بنيامين نتنياهو إلى تنفيذ مخططات استيطانية في أرجاء أخرى من الأراضي المحتلة، مستهدفةً ترسيخ قبضتها على المناطق الفلسطينية وتوطيد أقدامها في قلب القدس والضفة الغربية.
وفي هذا المضمار، كشفت وسائل الإعلام العبرية أن الكيان الصهيوني يعتزم إقامة احتفال تدشين مشروع “طريق الحجاج” في مدينة القدس المحتلة قبيل انعقاد جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة بأسبوع، وذلك بحضور “ماركو روبيو” وزير الخارجية الأمريكي.
وقد شهد هذا المشروع تدشينه الأول في حزيران/يونيو عام 2019 بحضور “ديفيد فريدمان” سفير واشنطن السابق و"جيسون غرينبلات" مبعوثها آنذاك إلى الشرق الأوسط، ويمتد هذا المسار بطول سبعمئة متر من مستوطنة “داوود” الاستيطانية، مخترقاً أعماق حي سلوان جنوب المسجد الأقصى، وصولاً إلى ساحة حائط البراق، ليشكّل حلقةً في سلسلة المخطط الصهيوني الرامي إلى ربط مستوطنة “داوود” بالبلدة القديمة في القدس والمنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى المبارك.
تبديل النسيج التاريخي والديموغرافي للقدس: محو الهوية وتزوير التاريخ
يتقنّع مشروع “طريق الحجاج” الذي يتبناه الكيان الصهيوني في القدس والضفة الغربية بقناع المشروع الأثري والسياحي، بيد أنه في جوهره وحقيقته يحمل في طياته مقاصد تتجاوز ذلك بمراحل.
يمثّل هذا المشروع حجر زاوية في صرح السياسة الشاملة للكيان الصهيوني، الرامية إلى تهويد القدس واجتثاث جذور الهوية الفلسطينية من هذه الأرض المقدسة تدريجياً.
فالصهاينة، عبر حفرياتهم الممنهجة وإنشاء مسارات يزعمون أنها دروب كان يسلكها الحجاج اليهود للوصول إلى هيكلهم المزعوم، يسعون لفرض سردية تاريخية مصطنعة على الرأي العام، سردية تتناقض تناقضاً صارخاً مع الحقائق التاريخية الراسخة والهوية الإسلامية-المسيحية المتجذرة للقدس الشريف.
كما يرمي “طريق الحجاج” إلى تغيير الموقع المكاني للقدس وإعادة تشكيل فضاءاتها الحضرية والدينية، ساعياً لإعادة صياغة جغرافيتها التاريخية لمصلحة المشروع الصهيوني في تل أبيب.
ولا يقتصر هذا المخطط على تبديل الملامح التاريخية للمنطقة فحسب، بل يمثّل أداةً فاعلةً لاقتلاع الفلسطينيين من جذورهم وتهجيرهم من منازلهم وأحيائهم، فقد تعرضت العديد من بيوت المقدسيين في حي سلوان والمناطق المحيطة بالمسجد الأقصى، للهدم أو التهديد بالإخلاء بسبب الحفريات والأعمال الإنشائية، ما يعني في حقيقة الأمر تطهيراً عرقياً تدريجياً يُنفذ بصمت.
ومن جهة أخرى، يكمن الهدف الجوهري لهذا المشروع، في تمهيد الأرضية للضمّ الكامل للضفة الغربية إلى الأراضي المحتلة، وقد صادق برلمان الكيان الصهيوني (الكنيست) مؤخراً على مشروع ضمّ الضفة الغربية، مانحاً حكومة نتنياهو التفويض القانوني والسياسي اللازم للمضي قدماً في مسار الضم، وترسيخ الاحتلال بدعم واسع من النواب.
وبالتوازي مع ذلك، أقر جيش الاحتلال الإسرائيلي، في إطار تنفيذ مشروع “طريق الحجاج”، “خطة طوارئ” وخاصة بالضفة الغربية لضمان الجاهزية التامة لمواجهة أي رد فعل فلسطيني، وتعكس هذه الإجراءات المتزامنة التناغم الاستراتيجي بين الحكومة والذراع العسكرية، لإحكام الطوق على الضفة الغربية وتسريع وتيرة تهويد القدس.
ويسعى الكيان الصهيوني، من خلال تغيير التركيبة السكانية وتعزيز وجود المستوطنين في قلب القدس، إلى نسج خيوط رابط وثيق بين هذه المدينة المقدسة وباقي مناطق الضفة الغربية، ويمهّد هذا الرابط الطريق لتنفيذ سياسة الضم، إذ إن الإزالة التدريجية للوجود الفلسطيني من القدس وترسيخ الهوية الصهيونية فيها، يعزّز أسطورة تل أبيب حول “وحدة أرض إسرائيل”، ويمثّل هذا المشروع امتداداً لسياسة “تهويد القدس” التي تُنفذ بوتائر متفاوتة منذ احتلال المدينة المقدسة عام 1967.
ومن المنظور الداخلي، يشكّل هذا المشروع استجابةً لمطالب اليمين المتطرف لتعزيز نفوذه السياسي، فقد اضطر نتنياهو، للحفاظ على ائتلافه الهش مع تيارات اليمين المتشدد، إلى التعهد بتسريع خطى ضمّ الضفة الغربية، وعليه، يمكن القول إن مشروع “طريق الحجاج” يمثّل جزءاً لا يتجزأ من وعود نتنياهو السياسية وأداة محورية لاسترضاء الأحزاب المتطرفة المشاركة في حكومته، سعياً لإنقاذ عرشه السياسي من الانهيار.
ما فتئت التيارات المتشددة بقيادة بن غفير وسموتريتش تؤكد على تعزيز وجود المستوطنين في القدس والضفة الغربية، وتسعى من خلال مشاريع مثل “طريق الحجاج” إلى ترسيخ قاعدتها الاجتماعية بين أنصارها المتطرفين، ولا يقتصر تنفيذ هذا المشروع على تسريع التغييرات الديموغرافية والهوياتية في القدس فحسب، بل يوفّر أيضاً الغطاء القانوني للاقتحامات المتكررة للمستوطنين لباحات المسجد الأقصى تحت إشراف قادة التطرف.
ويأتي تنفيذ هذا المخطط في فترةٍ تتزامن مع وجود إدارة دونالد ترامب في البيت الأبيض، حيث يوفّر الدعم الأمريكي غير المشروط لتل أبيب فرصةً ذهبيةً لنتنياهو للاستناد إلى هذا الإسناد لتحقيق الحلم الصهيوني القديم، المتمثل في تغيير هوية القدس وضم الأراضي المحتلة.
الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية
يأتي التنفيذ الصاخب لمشروع “طريق الحجاج” في توقيتٍ تشهد فيه الساحة الدولية تحولات سياسية بالغة الأهمية، فخلال الأسابيع المنصرمة، أعلنت عدة دول أوروبية، من بينها فرنسا وأيرلندا وإسبانيا والنرويج، عزمها الاعتراف بدولة فلسطين بالتزامن مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد وضع هذا القرار، الذي من شأنه تسريع عملية إضفاء الشرعية الدولية على الدولة الفلسطينية، تل أبيب في مأزق سياسي عميق.
وقد جاهر المسؤولون الصهاينة، على رأسهم نتنياهو ووزراء حكومته المتطرفون، مراراً وتكراراً بأنهم لن يسمحوا بإقامة دولة فلسطينية وأن جميع الأراضي المحتلة، بما فيها القدس والضفة الغربية، تشكّل جزءاً لا يتجزأ من كيانهم المحتل، وقد صرح نتنياهو في إحدى خطاباته الأخيرة بلهجة متغطرسة: “إن أي محاولة لفرض حل الدولتين ليست سوى سراب وأوهام، ستبقى "إسرائيل" مسيطرةً على كامل الأرض التاريخية لليهود”.
وعليه، فإن مشروع “طريق الحجاج” ليس مجرد مشروع عمراني أو ثقافي، بل هو سلاح ذو حدين له وظيفة سياسية وأمنية بالغة الخطورة، فهو يشكّل حلقةً في سلسلة الاستراتيجية الشاملة لتل أبيب لترسيخ الاحتلال، واغتيال أي أمل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
ويستخدم الكيان الصهيوني مشروع “طريق الحجاج” كأداة لإظهار صلابة إرادته السياسية، حيث يسعى لإيصال رسالة مفادها بأنه حتى لو اعترف المجتمع الدولي بفلسطين على المستوى الدبلوماسي، فإن هذا الكيان لن يسمح على أرض الواقع بأي تغيير جوهري في وضع الأراضي المحتلة.
وتتعارض هذه السياسة تعارضاً صارخاً مع المواثيق والقوانين الدولية، بما فيها قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن الضفة الغربية، ومع ذلك، يرى الكيان الصهيوني نفسه، بفضل المظلة الأمريكية ودعم بعض الدول الغربية، في موقع يمكّنه من المضي قدماً في مثل هذه الإجراءات دون خشية من التبعات القانونية.
وفي المحصلة النهائية، لا يمثّل مشروع “طريق الحجاج” مجرد مبادرة عابرة، بل هو حجر أساس في صرح السياسة طويلة المدى للكيان الصهيوني للضمّ الكامل للأراضي المحتلة، ومحو فلسطين من الخارطة السياسية والتاريخية للمنطقة، إن تنفيذ مثل هذه السياسات في ظل تعبئة الرأي العام العالمي ضد جرائم "إسرائيل" الوحشية في غزة، سيؤجّج نيران الغضب في أرجاء المنطقة، ولن يقضي هذا النهج على آمال تحقيق حل الدولتين فحسب، بل سيزيد بشكل خطير من احتمالات توسيع دائرة الصراع، إلى آفاق تتجاوز حدود الأراضي المحتلة.