الوقت- لم يكن الصراع بين بنيامين نتنياهو والمحكمة الجنائية الدولية مجرّد مواجهة قانونية صرفة، بل تحوّل إلى معركة سياسية وإعلامية وأمنية تتقاطع فيها المصالح الدولية مع محاولات الإفلات من العدالة، فمنذ أن أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، عن سعيه لاستصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية في غزة، انطلقت حملة غير مسبوقة تستهدف شخصه وسمعته.
وفي قلب هذه الحملة برزت ما بات يُعرف بـ "قضية النساء الأربعة"، وهي محاولة من نتنياهو وحلفائه لإقحام اتهامات ذات طابع أخلاقي ضد خان، بهدف التشكيك في نزاهته والتشويش على المسار القانوني الذي يهدد بإدانة القيادة الإسرائيلية، هذه الحملة ليست حدثاً معزولاً، بل تندرج ضمن استراتيجية إسرائيلية – أمريكية أوسع تهدف إلى تسييس المحكمة الجنائية الدولية وإفراغها من استقلاليتها.
خلفية الصراع: من أوامر الاعتقال إلى شيطنة المحكمة
بدأ الضغط على خان منذ مطلع عام 2024، عندما تسرّبت معلومات عن نية مكتبه إصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو ووزير الحرب يوآف غالانت، آنذاك، واجه المدعي العام ضغوطاً علنية وخفية من "إسرائيل" والولايات المتحدة، وصلت إلى فرض عقوبات أمريكية على شخصه وعلى عدد من معاونيه.
ومع ذلك، واصل خان المضي قدماً في مسار التحقيقات التي وثّقت استخدام الجيش الإسرائيلي لسياسة الأرض المحروقة في غزة: القصف العشوائي، استهداف المدنيين، منع المساعدات الإنسانية، والتجويع الممنهج،وهو ما دفعه في خريف 2024 إلى تقديم طلبات اعتقال إضافية ضد وزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لتتسع دائرة الاتهامات وتشمل أركان الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً.
رد نتنياهو لم يكن عبر الدفاع القانوني، بل عبر الهجوم على المحكمة ذاتها. وصفها بأنها منحازة، "معادية للسامية"، ومرتهنة لـ"أعداء إسرائيل"، غير أن الجديد كان الانتقال من خطاب سياسي تقليدي إلى حملة تشويه شخصية ضد المدعي العام.
"قضية النساء الأربعة": من أين بدأت القصة؟
تعود القصة إلى شكوى قدّمتها إحدى الموظفات في المحكمة ضد كريم خان، تتهمه بسوء السلوك الجنسي، هذه الشكوى أُحيلت إلى مكتب الرقابة الداخلية التابع للأمم المتحدة في مايو 2024، لكنها أُغلقت بعد أيام بسبب رفض مقدمتها التعاون.
لكن في أغسطس 2025، فجّر نتنياهو "قنبلة إعلامية" خلال مقابلة مع موقع "بريتبارت نيوز"، إذ ادّعى أن أربع نساء أخريات تقدمن بشكاوى ضد خان، هذه المعلومات لم تكن معروفة حتى داخل المحكمة أو لدى الأمم المتحدة.
وأكد المتحدث باسم خان أنه لم يُبلّغ مطلقاً بأي قضايا إضافية، معتبراً أن نتنياهو يتلاعب بمسار التحقيقات الداخلية ويحاول تسريب مزاعم غير مثبتة.
بعدها بيوم واحد فقط، نشرت صحيفة الغارديان تقريراً حصرياً عن "امرأة ثانية" تزعم أنها تعرضت لسلوك غير لائق من خان قبل سنوات، لكن المحكمة أكدت أن هذه المرأة ليست "مشتكية" وإنما "شاهدة" في التحقيق.
هذا التزامن الزمني، بين تصريحات نتنياهو وتسريب الغارديان، أثار شكوكا قوية بأن هناك تنسيقاً أو تدخلاً متعمداً لنشر معلومات هدفها ضرب سمعة خان وإضعاف موقفه.
استراتيجيات التشويه: من النساء إلى العائلة
لم تتوقف محاولات نتنياهو عند قضية النساء، فقد أشارت تقارير إلى وجود جهود منظمة للتشكيك في حياة خان الشخصية، من بينها ترويج شائعات بأن ابنته المتبناة كانت ضحية اتجار بالبشر، هذا النوع من الاستهداف الشخصي يوضح أن المسألة لم تعد مجرد خلاف قانوني، بل حرباً نفسية وإعلامية يراد منها إحباط المدعي العام وتجريده من شرعيته الأخلاقية.
كما تحدّثت مصادر من داخل المحكمة عن محاولات حث موظفين أو مقربين من خان على تقديم روايات كاذبة، بل إن بعض المحامين في المحكمة – المعارضين لنهج خان في مقاضاة الإسرائيليين – شاركوا في هذه الأجواء عبر التشكيك في قدرته على الاستمرار.
بهذا المعنى، تتحول المحكمة الجنائية الدولية من فضاء قانوني مستقل إلى ساحة صراع داخلي تُغذّيها الضغوط الخارجية الإسرائيلية والأمريكية.
الإبادة في غزة: من قضية جنائية إلى ملف سياسي
الأصل في عمل المحكمة الجنائية الدولية هو التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفي حالة غزة، فإن الأدلة التي تراكمت منذ أكتوبر 2023، والتي وثقتها منظمات أممية وصحافة عالمية، لا تدع مجالاً كبيراً للشك في وقوع جرائم إبادة جماعية أو على الأقل ممارسات تندرج في إطار الجرائم ضد الإنسانية.
لكن "إسرائيل" وحلفاءها عملوا على نقل النقاش من جوهر الجرائم إلى صدقية الجهة التي تحقق فيها، بدل أن يكون السؤال: هل ارتُكبت إبادة جماعية في غزة؟ صار السؤال: هل كريم خان شخص نزيه أم متورط في فضائح جنسية؟
هذا التحول يخدم "إسرائيل" على مستويين:
إلهاء الرأي العام عن الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين.
إرباك المحكمة وإضعاف مصداقيتها أمام المجتمع الدولي.
بهذا الشكل، تحوّلت القضية من ملف قانوني صرف إلى أداة ابتزاز سياسي، تهدد ليس فقط مسار العدالة في غزة، بل مستقبل المحكمة الجنائية الدولية برمتها.
الضغوط الأمريكية: حماية لكيان الاحتلال بأي ثمن
لم يكن نتنياهو ليجرؤ على هذه الحملة لولا الدعم الأمريكي المباشر، فمنذ إدارة ترامب، استخدمت واشنطن العقوبات والتهديدات المالية ضد مسؤولي المحكمة حين حاولت فتح ملفات تخص جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان أو جرائم "إسرائيل" في فلسطين.
اليوم، ومع توسع التحقيقات ضد نتنياهو وأركان حكومته، تضاعفت هذه الضغوط، فقد فرضت واشنطن عقوبات على اثنين من نواب كريم خان في صيف 2025، في إشارة واضحة إلى أن أي محاولة للمضي قدماً ستواجه برد سياسي واقتصادي.
هذا الموقف الأمريكي يضع المحكمة في مأزق حقيقي: فهي من جهة مؤسسة مستقلة يُفترض أن تعمل بمعزل عن الحسابات السياسية، ومن جهة أخرى تعتمد على تمويل ومساندة دول كبرى – في مقدمتها الولايات المتحدة.
هكذا يصبح استقلال المحكمة نظرياً أكثر منه عملياً، وهو ما كشفته بوضوح حملة نتنياهو الأخيرة.
أبعاد قانونية وأخلاقية: بين استقلال القضاء وتوظيف الفضائح
القانون الدولي يفترض أن يُعامل المدعي العام أو القضاة في المحكمة كـ"أشخاص محميين"، لا يجوز استهدافهم أو الضغط عليهم أثناء ممارستهم لعملهم، لكن ما جرى مع خان يعكس ثغرات كبيرة في آليات الحماية.
فبمجرد إطلاق شائعة أو تسريب إعلامي، يجد الرجل نفسه مضطراً إلى الدفاع عن شرفه الشخصي بدل التركيز على ملفات الإبادة والجرائم. هذه الاستراتيجية ليست جديدة؛ فهي شائعة في الأنظمة السلطوية التي تستخدم التشويه الجنسي والأخلاقي كأداة لكسر المعارضين، الجديد هو أن تُمارسها دولة عضو في الأمم المتحدة ضد مدعٍ عام لمحكمة دولية.
هنا يطرح السؤال الأكبر: إذا كانت المحكمة الجنائية الدولية عاجزة عن حماية موظفيها من التشويه والابتزاز، فكيف يمكنها أن تفرض العدالة على قادة دول متهمين بجرائم حرب؟
شهادات من الداخل: مقاومة واستقالات
كشفت تقارير أن بعض القضاة والمحامين داخل المحكمة شعروا بـ"الصدمة والانزعاج" من حجم الضغوط الممارسة على خان، القاضي السابق كونو تارفوسر اعتبر أن خان "يدفع ثمن استقلاله وصدقه الفكري".
لكن في المقابل، ظهرت أصوات داخلية تحاول استغلال هذه المزاعم للتشكيك في قيادته، بل إن أحد كبار موظفي مكتبه دعا إلى تعليق عمله مؤقتاً، في محاولة لتعطيل مسار التحقيقات.
هذه الانقسامات الداخلية تزيد من هشاشة المحكمة، وتجعلها عرضة للاختراق من قبل قوى خارجية تسعى لإفشالها.
بين لاهاي وغزة: العدالة المعلّقة
في المحصلة، نجح نتنياهو في تحويل الأنظار – ولو جزئياً – من المجازر اليومية في غزة إلى "فضائح" شخصية مفترضة ضد كريم خان، وبينما يُترك آلاف الفلسطينيين لمصيرهم تحت القصف والجوع، تنشغل المحكمة في لاهاي بالدفاع عن نزاهة مدعيها العام.
لكن هذه المعركة لم تُحسم بعد، فالمذكرات التي أعدها خان بحق نتنياهو وبن غفير وسموتريتش ما زالت موجودة في أيدي نوابه، حتى وإن تعطل الإعلان عنها بفعل الضغوط، وهذا يعني أن شبح العدالة ما زال يلاحق القيادة الإسرائيلية، رغم كل محاولات التشويه.
اختبار لمستقبل العدالة الدولية
قضية كريم خان ليست مجرد فصل في حرب سياسية بين نتنياهو والمحكمة، إنها اختبار لمستقبل العدالة الدولية:
هل تستطيع المحكمة الجنائية الدولية حماية استقلالها أمام الابتزاز والتهديد؟
هل يمكن للمدعي العام أن يواصل عمله رغم محاولات تحطيم سمعته؟
وهل يبقى العالم قادراً على التمييز بين جوهر القضية (الإبادة في غزة) والتشويش المتعمد (فضائح مفبركة)؟
الجواب على هذه الأسئلة سيحدد ما إذا كانت المحكمة ستظل مؤسسة ذات مصداقية أم إنها ستُختزل إلى أداة سياسية بيد القوى الكبرى.
بالنسبة للفلسطينيين، فإن العدالة ما زالت معلّقة بين مطرقة الإبادة وسندان السياسة الدولية، أما بالنسبة لنتنياهو، فقد يكون نجاحه في تأجيل أو تعطيل التحقيقات نصراً مؤقتاً، لكنه يكشف في الوقت ذاته مدى خوفه من شبح لاهاي.
ختام القول
في نهاية المطاف، قد ينجح في تلويث سمعة كريم خان، لكنه لن يستطيع محو حقيقة أن الجرائم في غزة ارتُكبت أمام أعين العالم أجمع، وأن التاريخ سيظل يسجل أن رئيس وزراء "إسرائيل" لجأ إلى الابتزاز والتشويه للهروب من تهمة الإبادة الجماعية.