الوقت- في منتصف أغسطس/آب 2025 نقل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين رسالة شخصية من زوجته ميلانيا، الرسالة التي حصلت عليها وسائل إعلام أمريكية وصفتها بأنها “رسالة سلام” دعت إلى حماية الأطفال حول العالم وحماية الأجيال المقبلة الصحف نقلت أن محتوى الرسالة ركز على الأطفال المتضررين من الحرب الروسية‑الأوكرانية، ولا سيما الأطفال الذين اختُطفوا أو نُقلوا إلى الأراضي الروسية خلال الحرب في المقابل تتفاقم معاناة الأطفال في قطاع غزة المحاصر، حيث أودت الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 بحياة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، ويواجه مئات الآلاف من الأطفال مجاعة وبرداً وإصابات.
هذا المقال يحاول فهم دوافع الرسالة الأمريكية إلى روسيا، ومقارنة هذا التحرك بالتجاهل الأمريكي الرسمي لمعاناة أطفال غزة، وطرح سؤال أخلاقي واضح: لماذا لا تُوجَّه رسالة مماثلة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لحماية أطفال غزة؟
مضمون رسالة ميلانيا إلى بوتين
مصادر إعلامية مثل قناة فوكس نيوز نشرت نص الرسالة التي بدأت بعبارة: “عزيزي الرئيس بوتين، كل طفل يشارك أحلاماً هادئة في قلبه، سواء وُلد في ريف ريفي أو في مركز مدينة رائعة، إنهم يحلمون بالحب والفرص والأمان ”تواصلت الرسالة قائلة إن مهمة الآباء “رعاية الأمل في الجيل القادم” وإن مسؤولية القادة تتمثل في حماية جميع الأطفال “خارج حدود الدول والأنظمة"، وشددت على ضرورة “العمل على رسم عالم يفيض بالكرامة حتى يستيقظ كل إنسان على السلام” كما دعت بوتين إلى إعادة البسمة إلى وجوه الأطفال قائلة: “في حماية براءة هؤلاء الأطفال ستخدم أكثر من روسيا وحدها ـ ستخدم الإنسانية بأسرها” وختمت بقولها: “إنه الوقت المناسب".
الرسالة، كما ذكرت وكالة رويترز، تناولت قضية الأطفال الأوكرانيين الذين نُقلوا قسراً إلى روسيا أثناء الحرب، وذكرت المنظمة أنه “لم يُفصح عن محتوى الرسالة سوى أنها تناولت عمليات اختطاف الأطفال نتيجة الحرب".
هذه الرسالة، مهما كانت دوافعها السياسية، تضع موضوع الأطفال وحقوقهم في صدارة الخطاب السياسي الأمريكي تجاه روسيا.
مشهد الحرب في أوكرانيا
لقد لقيت دعوة ميلانيا اهتماماً إعلامياً لأنها تزامنت مع جهود دبلوماسية للحد من الحرب الروسية‑الأوكرانية، منظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أعلنت أن روسيا “ألحقت معاناة بملايين الأطفال الأوكرانيين” و”انتهكت حقوقهم” منذ بداية الغزو عام 2022 كما وصفت أوكرانيا نقل الأطفال إلى روسيا بأنه جريمة حرب تصل إلى حد الإبادة الجماعية لذلك لا غرابة في أن يحاول البيت الأبيض استخدام الرمزية الإنسانية للضغط على موسكو، لكن دعم الولايات المتحدة للأطفال لا يجب أن يكون انتقائياً، وخصوصاً إذا كان البلد ذاته متورطاً في دعم طرف آخر في نزاع مشابه.
مأساة الأطفال في غزة: أرقام وشهادات
بينما كتبت السيدة الأولى رسالة تحث فيها الرئيس الروسي على حماية الأطفال، تتجاهل الإدارة الأمريكية المأساة الأكبر للأطفال في قطاع غزة، منذ هجوم الـ 7 من أكتوبر 2023، شنت "إسرائيل" حملة عسكرية واسعة أودت بحياة أكثر من 61 ألف فلسطيني حتى منتصف أغسطس 2025، حسب وزارة الصحة في غزة، وأشارت الأمم المتحدة إلى أن هذه الحصيلة هي “المعلومة الأكثر مصداقية” رغم رفض "إسرائيل" للأرقام من بين هؤلاء آلاف الأطفال الذين قُتلوا أو أصيبوا في القصف المستمر؛ تقرير للموقع الإخباري “تينيسي لوكاوت” قدر عدد الأطفال الفلسطينيين الذين قُتلوا حتى فبراير 2024 بأكثر من 12 ألف طفل.
المجاعة وسوء التغذية
حذرت منظمة الصحة العالمية في أغسطس 2025 من أن قرابة 12 ألف طفل دون سن الخامسة في غزة يعانون من سوء تغذية حاد، وأن عدد وفيات الأطفال بسبب الجوع في ارتفاع يُعاني نحو 500 طفل من سوء تغذية شديد، وقد توفى 35 طفلاً – بينهم 29 رضيعاً – جراء الجوع منذ بداية العام حتى ويقول ممثل المنظمة في الأراضي الفلسطينية إن حجم المساعدات الغذائية “غير كافٍ تماماً لمنع مزيد من التدهور".
القتل والقصف
في أحدث موجات الهجمات الإسرائيلية على غزة، قالت وزارة الصحة في القطاع إن الجيش الإسرائيلي قتل 123 فلسطينياً خلال 24 ساعة في منتصف أغسطس 2025، كما أشارت التقارير إلى أن ثمانية أطفال على الأقل قضوا بسبب الجوع وسوء التغذية في يوم واحد، منظمة الأمم المتحدة للطفولة يونيسف ذكرت في الـ 8 من يناير 2025 أن 74 طفلاً قُتلوا في الأسبوع الأول من العام الجديد نتيجة لهجمات على غزة، بما فيها هجمات على مناطق أُعلنت “مناطق آمنة”، أضافت اليونيسف إن ملايين الأطفال يعيشون في خيام موقتة، وأن ثمانية رُضَّع توفوا من انخفاض حرارة الجسم بسبب انعدام المأوى والتدفئة، كما حذرت المنظمة من انهيار النظام الصحي بعد توقف آخر مستشفى للأطفال في شمال غزة.
تقارير المنظمات الدولية
في يوليو 2025، أصدرت 25 دولة، من بينها بريطانيا وكندا وفرنسا واليابان، بياناً مشتركاً يدعو إلى إنهاء الحرب فوراً، وأدانوا الحكومة الإسرائيلية بسبب “قتل المدنيين بشكل غير إنساني” و”تقطير المساعدات” للسكان، البيان وصف توزيع المساعدات الإنسانية الإسرائيلية بأنه “نموذج خطير يذل الفلسطينيين”، وطالب "إسرائيل" بالامتثال للقانون الدولي وكانت منظمة الأمم المتحدة قد ذكرت أن أكثر من 59 ألف شخص قُتلوا، وهو رقم اعتبرته أكثر الأرقام موثوقية.
لغة التجريد من الإنسانية في الخطاب الإسرائيلي
بالإضافة إلى الخسائر البشرية، يؤجج بعض المسؤولين الإسرائيليين خطاباً يُجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم. في الـ 9 من أكتوبر 2023 أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أن بلاده “تحارب حيوانات بشرية” في غزة وأنها ستفرض “حصاراً كاملاً”، قائلاً: “لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود” ورد هذا التصريح في وسائل إعلام عديدة ويُعتبر مثالاً صريحاً على لغة تحريضية تبرر القسوة والحرمان الجماعي.
في اليوم التالي، الـ 12 من أكتوبر 2023، صرّح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بأن “الأمة بأكملها” في غزة مسؤولة عن أعمال حماس، مضيفاً: “إنه ليس صحيحاً هذا الكلام عن المدنيين غير المعنيين… كان بإمكانهم أن يثوروا” تضمن هذا التصريح أيضاً تهديداً باستمرار القتال حتى “كسر العمود الفقري” للمجتمع الفلسطيني هذه اللغة تخلق إطاراً يُصور المدنيين – بمن فيهم الأطفال – كأنهم طرف في الحرب وليسوا ضحاياها، ما يبرر ضربهم وتجويعهم.
حتى نُواب في الكنيست استخدموا خطاباً مماثلاً؛ فقد نقلت صحيفة “تينيسي لوكاوت” عن نائب رئيس الكنيست نيسيم فاطوري قوله في يناير 2024: “يجب محو غزة عن وجه الأرض، يجب أن تُحرق غزة، لا أبرياء هناك” على الرغم من أن هذه التصريحات لا تمثل بالضرورة جميع الإسرائيليين، فإنها تُظهر نزعة رسمية إلى التعميم العقابي وتجاهل التمييز بين المدنيين والمقاتلين.
هذا الخطاب ليس مجرد كلمات؛ المحكمة الجنائية الدولية (ICJ) أشارت في أمرها الصادر في يناير 2024 أن تصريحات غالانت وهرتسوغ، وتهديد حرمان غزة من الماء والغذاء، وثقها ممثلو الأمم المتحدة باعتبارها “خطاباً تحريضياً على الإبادة"، وأضافت المحكمة إن هذه اللغة شكلت جزءاً من الأساس لطلب جنوب إفريقيا اتخاذ تدابير تحفظية ضد "إسرائيل" للحيلولة دون وقوع أعمال إبادة.
صمت ميلانيا ترامب إزاء أطفال غزة
في هذا السياق المأساوي، يبدو صمت السيدة الأولى الأمريكية حيال معاناة أطفال غزة لافتاً للنظر، فبينما كتبت خطاباً مؤثراً إلى بوتين دعته فيه إلى حماية الأطفال الأوكرانيين، لم توجه أي خطاب مماثل إلى رئيس وزراء "إسرائيل"، رغم أن واشنطن هي الداعم العسكري الأكبر للحكومة الإسرائيلية، بل إن الإدارة الأمريكية وفرت تمويلاً للمبادرة التي تديرها منظمة “صندوق غزة الإنساني” (GHF) والتي تعرضت لانتقادات لأنها تجبر المدنيين على قطع مسافات طويلة للحصول على الطعام وتعرضهم للنيران الإسرائيلية.
الرئيس ترامب نفسه اعترف في يوليو 2025 بأن “هناك جوعاً حقيقياً في غزة” رداً على تصريح نتنياهو بأن “لا يوجد مجاعة” في القطاع وقد ذكر ترامب أن الأطفال في غزة “يبدون جائعين جداً”، لكنه لم يتخذ خطوات ملموسة لحماية هؤلاء الأطفال أو الضغط العلني على "إسرائيل" لوقف الحرب، بل على العكس، دعت إدارته إلى معارك أشد للقضاء على حماس، في الوقت الذي أوضحت فيه المنظمات الحقوقية أن استمرار الحرب والقيود على المساعدات يفاقم الكارثة الإنسانية.
إن التصريحات المتعاطفة من ترامب وزوجته مع أطفال أوكرانيا تكشف انتقائية في المشاعر الإنسانية، فكما جاء في رسالة ميلانيا، “كل طفل لديه أحلام هادئة”، وهي عبارة تنطبق على الأطفال في غزة كما تنطبق على الأطفال في أوكرانيا، أطفال غزة أيضاً يحلمون بالأمان والحب وفرص التعليم، لكن الحصار والقصف حوَّل أحلامهم إلى كوابيس؛ الكثير منهم يموتون جوعاً في مخيمات النزوح أو تحت ركام منازلهم.
أسباب محتملة لهذا التجاهل
قد يجادل البعض بأن السيدة الأولى لا تتدخل في السياسة الخارجية أو أن دورها رمزي، لكن التاريخ يُظهر أن زوجات الرؤساء استخدمن منصاتهن للضغط من أجل القضايا الإنسانية، ففي الحرب العالمية الثانية، لعبت إليانور روزفلت دوراً بارزاً في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما دعت سيدة أمريكا الأولى السابقة ميشيل أوباما إلى تعليم الفتيات حول العالم، بمن فيهن الفتيات في المناطق التي تخضع لنزاعات مسلحة.
إذن لماذا لم تكتب ميلانيا رسالة إلى نتنياهو؟ ربما لأن الإدارة الأمريكية تعتبر "إسرائيل" حليفاً وثيقاً ولا تريد إظهار أي خلاف علني، أو لأن التركيز على معاناة الأوكرانيين يصب في مصلحة حملة ترامب الانتخابية – فإظهار التعاطف مع أطفال بيض في أوروبا قد يلقى دعماً لدى قطاع من الناخبين الأمريكيين.
كما يمكن أن يكون السبب إدراكها أن الحكومة الإسرائيلية غير مستعدة للاستجابة لنداءات علنية، وبالتالي ترى أن الرسالة لن تغير شيئاً، إلا أن هذه التبريرات لا تُلغي التناقض الأخلاقي بين الدفاع عن حقوق الأطفال في بلد ما وتجاهل حقوق الأطفال في بلد آخر، وخصوصاً عندما يكون الصراع الثاني مدعوماً من الولايات المتحدة.
الحاجة إلى معايير أخلاقية موحدة
إن حماية الأطفال يجب ألا تخضع للاعتبارات السياسية، القيم التي دعت إليها رسالة ميلانيا – الحب والفرص والسلام – لا تعرف جنسية أو ديناً، أطفال غزة وأوكرانيا واليمن والسودان جميعهم ضحايا قرارات سياسية وعسكرية لا دخل لهم فيها، لذلك يجب أن يركز أي خطاب إنساني على حماية جميع الأطفال دون استثناء.
إن استمرار الحرب في غزة وحرمان الأطفال من الغذاء والماء والرعاية الصحية يرقى إلى جريمة جماعية، منظمة الصحة العالمية واليونيسف تحذران من مجاعة قريبة ومن انهيار النظام الصحي.
إن عدم اتخاذ إجراءات عاجلة يسمح للجوع والأمراض بحصد مزيد من الأرواح ومع ذلك، ما زالت الولايات المتحدة تقدم الدعم العسكري لـ"إسرائيل" وتعرقل قرارات مجلس الأمن التي تدعو إلى وقف إطلاق النار.
إن الكتابة إلى قادة العالم ليست مجرد فعل رمزي؛ بل تعبيراً عن المسؤولية الأخلاقية، إذا كانت السيدة الأولى تريد حقاً حماية الأطفال حول العالم، فلتوجه رسائل مماثلة لكل الأطراف المتحاربة، لن يضيرها أن تدعو علناً حكومة نتنياهو إلى وقف الحرب وفتح المعابر والسماح بدخول المساعدات وإنهاء الحصار، ويمكن أن تدعو حماس أيضاً إلى إطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق الصواريخ، مثل هذه الرسائل المتوازنة قد تساهم في خلق ضغط دولي وتحرك الرأي العام الأمريكي نحو معايير إنسانية موحدة.
تذكّر رسالة ميلانيا ترامب إلى بوتين أن السياسة يمكن أن تتضمن لمسة إنسانية، لكنها تكشف أيضاً عن فشل القادة الغربيين في تطبيق هذه الإنسانية على جميع النزاعات، الأطفال في غزة يموتون جوعاً وقصفاً، بينما يُحرِّك العالم حملات لإنقاذ الأطفال الأوكرانيين، إن لغة التجريد من الإنسانية التي يستخدمها بعض المسؤولين الإسرائيليين – من وصف الفلسطينيين بـ "الحيوانات البشرية" إلى تبرير قتل المدنيين باعتبارهم “أمة مسؤولة” تُظهر الحاجة إلى تدخل أخلاقي صارم
لذا، ينبغي على القادة وأزواجهم أن يتوقفوا عن انتقاء المآسي التي يبدون التعاطف معها، وأن يعترفوا بأن كل طفل، سواء وُلد في خاركيف أو خان يونس، يستحق الحب والأمن والفرصة في مستقبل أفضل.