الوقت- في القرن الحادي والعشرين، حيث تملأ شعارات حقوق الإنسان المؤتمرات الدولية وتزهو الدول الغربية بادعاءات الدفاع عن الكرامة الإنسانية، يعيش أكثر من مليونَي إنسان في قطاع غزة موتًا بطيئًا، تحت وطأة حصار إسرائيلي خانق، وجوعٍ بات أقرب إلى الإبادة الصامتة. الصور التي تتوالى من شمال القطاع، لا تشبه لقطات الكوارث الطبيعية أو المجاعات العارضة، بل تحاكي مشهدًا ممنهجًا لقتل شعب بأكمله، لا بصواريخ وقذائف، بل بلقمةِ خبزٍ مفقودة.
أطفال يسقطون من شدة الجوع
تحت شمس الصيف الحارقة، وفي طوابير طويلة تمتد لعشرات الأمتار أمام نقاط توزيع المساعدات النادرة، تنهار أجساد الأطفال الهزيلة الواحد تلو الآخر. بعضهم يسقط مغشيًا عليه، وبعضهم الآخر يبكي بهمسٍ لا يُسمع: "أريد خبزًا". مشاهد الغيبوبة الناتجة عن الجوع الحاد صارت مشهدًا يوميًا في غزة، لا تثير الاستغراب، بل تُواجَه بعجزٍ جماعي وخذلان دولي.
تقارير وكالة الأونروا تؤكد أن الغيبوبة الناتجة عن نقص الغذاء تحولت إلى "مشهد يومي مألوف" في شمال قطاع غزة. وتضيف: "الناس يفقدون وعيهم أثناء محاولاتهم البائسة للعثور على الطعام، أو أثناء الوقوف في الطوابير الشحيحة الطويلة التي قد لا تنتهي سوى بيدين فارغتين وقلوبٍ مكسورة."
المجاعة.. الوجه الجديد للحرب
ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل سياسة تجويع ممنهجة. منظمة الصحة العالمية أعلنت صراحة أن "المجاعة في غزة تحوّلت إلى سلاح قاتل". لم يَعُد الأطفال يموتون بسبب القصف فقط، بل بسبب انعدام الغذاء، والحرمان من الحليب، والنقص الكارثي في المواد الأساسية. أكثر من 90% من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من سوء تغذية حاد بلغ مستوىً كارثيًا، وفقًا لأحدث إحصائيات المنظمة.
يموت الأطفال بأجساد ضعيفة وجلودٍ تلتصق بعظامها، بلا جرعة دواء ولا وجبة غذاء. صور الصغار الذين لا يستطيعون الوقوف على أقدامهم من شدة الهزال، أصبحت رمزًا مأساويًا لمرحلة سوداء في تاريخ البشرية، ولعجز دولي عن فرض أدنى معايير الإنسانية في منطقة تعيش أقسى أنواع الحصار والتجويع.
شعبٌ يأكل التراب
في تقارير صادمة صدرت عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، حذّرت المنظمة من أن "قطاع غزة أصبح من أخطر الأماكن على وجه الأرض بالنسبة للأطفال." مع تدهور نظام الصحة وانهيار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، بات الموت جوعًا وسوء تغذية أمرًا شائعًا بين الأطفال الرضع. لا يجدون طعامًا، فيأكلون أي شيء: الحشائش، الأعشاب، الحصى، وحتى التراب.
أحدث ما صُوّر وانتشر في العالم كان فيديو لطفلة صغيرة في الخامسة من عمرها، جاثية على ركبتيها، تلتقط حفنة من الرمال لتأكلها. لم يكن المشهد من فيلم سينمائي عن نهاية العالم، بل صورة حقيقية من غزة، نقلها الصحفيون من شمال القطاع حيث لا يصل الماء، ولا يصل الغذاء، ولا تصمت الطائرات.
مناشدات الأمهات ودموع العجز
في مدارس الأونروا التي تحولت إلى ملاجئ مؤقتة، تتعالى صرخات الأمهات. "أنقذوا أطفالي، سيموتون من الجوع". أمٌ تحتضن صغيرها الهزيل، لا تبكي من أجل بيتها المدمر، بل من أجل حليبٍ لم يتوفر له منذ أيام. أخرى تدور بين الغرف، تبحث عن وجبة، أو حتى بقايا طعام. ومن بين الدموع، يرتفع سؤال صارخ: أين العالم؟
أصبح صوت الأمهات الفلسطينيّات في غزة عنوانًا للمأساة. لا يطالبن بشيء أكثر من الطعام، الحليب، الأدوية الأساسية. لكن الحصار الإسرائيلي المستمرّ منذ أكثر من 9 أشهر يرفض أن يسمح بمرور هذه الضروريات. وحدها أصوات الأمهات تكسر صمت هذا العالم.
الأمم المتحدة: "سكان غزة يموتون جوعًا"
فرحان حق، نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، أعلن مؤخرًا أن "حتى موظفي الأمم المتحدة في غزة باتوا يعانون من الجوع." ليست مبالغة، بل وصف دقيق لحجم الكارثة. المؤسسات الإغاثية تؤكد أن أكثر من مليون شخص في غزة "على شفا المجاعة الحقيقية"، فيما يمنع الاحتلال الإسرائيلي دخول الغذاء والدواء والوقود تحت ذريعة "الأمن".
في يناير الماضي، أثناء الهدنة المؤقتة، استطاعت الأمم المتحدة إيصال الغذاء إلى مناطق واسعة من القطاع. الآن، مع تعطل معظم المعابر ورفض إسرائيل السماح بدخول المساعدات الكافية، يواجه المدنيون كارثة إنسانية غير مسبوقة، لم يشهدها حتى خلال الحروب السابقة.
في كل يوم، تظهر صور جديدة لأطفال هزلى، لأمهات يصرخن، لكبار سن يسقطون أرضًا من شدة الجوع. وفي كل يوم، تتجاهل وسائل الإعلام الغربية هذه الكارثة، أو تبررها ضمن سياقات "الحرب على الإرهاب" و"حق الدفاع عن النفس". لا تُعرض صور المجاعة في شاشاتهم كما تُعرض صور المجاعة في أفريقيا. لا تُنشر مقاطع الفيديو كما تُنشر لضحايا الأزمات في أماكن أخرى.
كأن غزة خارج خريطة الإنسانية، أو كأن الفلسطيني الذي يموت جوعًا لا يستحق اهتمامًا دوليًا، فقط لأنه يقاوم الاحتلال. يتكرّر هذا الصمت منذ أشهر، رغم التحذيرات من الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، والأونروا، ويونيسف، والصليب الأحمر.
الجوع كسلاح: جريمة حرب مسكوت عنها
إن استخدام الجوع كأداة للضغط السياسي والعسكري يُصنّف وفقًا للقانون الدولي كجريمة حرب. اتفاقيات جنيف تحظر بشكل قاطع تجويع المدنيين كوسيلة من وسائل القتال. ومع ذلك، فإن ما يحدث في غزة من منع دخول المساعدات الأساسية واستخدام الحصار لتجويع أكثر من مليوني إنسان، يمثل انتهاكًا صارخًا لكل المعاهدات والمواثيق الإنسانية.
لكن في واقع الأمر، لا أحد يحاسب. لا لجان تحقيق أممية تستطيع الدخول، ولا محاكم دولية قادرة على كسر هيمنة الفيتو الأمريكي. فقط تُدوّن الجرائم، تُوثّق، تُبثّ في شبكات التواصل، ثم تُنسى وسط ضجيج العالم.
أن يبقى الإنسان حيًا في غزة اليوم، هو معجزة. في ظل انهيار النظام الصحي، وانعدام المياه النظيفة، وانقطاع الكهرباء، وانتشار الأوبئة، وصمت العالم، لم تَعُد الحياة أمرًا مفروغًا منه. المئات من الأطفال يموتون كل أسبوع بسبب الجوع، والمئات الآخرين يصارعون من أجل لقمة يسدون بها رمقهم.
فتيات في ربيع أعمارهن يتساقطن أرضًا، رضعٌ لا يجدون حليبًا، عجائزٌ يمشون أميالًا على أقدامهم بحثًا عن وجبةٍ أو دواء. هذا هو الواقع اليومي لسكان غزة، وسط تجاهل دولي رهيب، وعجز تام عن وقف هذه المذبحة.
بالرغم من عشرات النداءات من منظمات الإغاثة والهيئات الأممية، لا يزال الكيان الإسرائيلي يمنع مرور المساعدات الإنسانية إلى القطاع بشكلٍ كافٍ. تقارير متعددة أكدت أن الجيش الإسرائيلي يرفض إعطاء التصاريح اللازمة للقوافل الغذائية، ويقصف أحيانًا بعض نقاط التوزيع أو الطرق المؤدية إليها.
وفي المقابل، يستخدم الكيان الإسرائيلي سياسة "التنقيط"؛ تمرير كميات محدودة جدًا من الغذاء تُبقي الناس على حافة الموت، دون أن تمكّنهم من النجاة. الأمر لا يتعلق بالأمن، بل هو نموذج صارخ لاستخدام الجوع كسلاحٍ لإخضاع السكان، وكسر إرادتهم.
أين العرب؟ أين الضمير العالمي؟
بينما يعيش الشعب الفلسطيني في غزة أسوأ كارثة إنسانية في العصر الحديث، لا تزال الأنظمة العربية منشغلة بالمؤتمرات والبيانات الإنشائية. لم نرَ قوافل غذائية عربية تدخل بقوة كما فعلت بعض المبادرات الفردية. لم نسمع عن موانئ تُفتح أو معابر تُكسَر من أجل شعب يموت جوعًا. وحده الشعب الفلسطيني يُترك لمصيره، يواجه الاحتلال، والقصف، والمجاعة، والحصار، وخراب الضمير.
أما "الضمير العالمي"، فقد مات منذ زمن. منظمات المجتمع المدني، الأحزاب في أوروبا، الناشطون، الإعلام العالمي، جميعهم أداروا ظهورهم لغزة. ربما لأن المذبحة هذه المرة تُنفّذ بهدوء. لا أصوات انفجارات، فقط أنين أطفال ووجوه صفراء بلا روح.
يبقى الأمل في وقف فوري لإطلاق النار، وفتح المعابر، وعودة تدفق المساعدات بشكل واسع. لكن كل هذا مرهون بضغط سياسي دولي حقيقي، وبقرار شجاع من العالم لكسر الحصار المفروض على غزة. الفلسطينيون لا يطلبون ترفًا، ولا مساعدات ضخمة، فقط حقهم في البقاء أحياء.
العالم مطالب اليوم بأن يختار: إما أن يصمت على موت أطفال غزة جوعًا، أو أن يتحرك ويقول: "كفى"
ما يجري في غزة ليس مجرد مأساة إنسانية، بل شهادة دامغة على سقوط العالم. أن يموت الأطفال جوعًا في عصر التكنولوجيا والثراء، فهذه فضيحة تتجاوز الكيان الإسرائيلي، وتمسّ كل من صمت، برّر، أو غضّ الطرف. الموت البطيء في غزة يجب أن يهزّ الضمير العالمي من جذوره. لا لشيء، إلا لأن البشر هناك... يستحقون الحياة.