الوقت - في غمرة تصاعد التوتر بين إيران والولايات المتحدة، ومع تزايد الهجمات العسكرية الأمريكية والإسرائيلية على بعض المنشآت النووية الإيرانية، تجد المملكة نفسها في قلب اختبار استراتيجي دقيق، لقد سعت السعودية في السنوات الأخيرة إلى تعديل سياساتها الخارجية التي اتسمت بالعدوانية في مراحل سابقة، والتي تجلّت بشكل أساسي في تدخلها العسكري في اليمن، وبدلاً من ذلك، تحاول الآن أن تُقدّم نفسها كلاعبٍ براغماتي يميل إلى ضبط الفوضى الإقليمية، غير أن التطورات الأخيرة، التي تشير بعض التقارير إلى دور خفي لبعض الدول في دعم العمليات ضد إيران، تهدد بتآكل هذه الصورة التي سعت المملكة إلى ترسيخها.
ومن جانب آخر، تشكّل العلاقة الوثيقة بين ولي العهد محمد بن سلمان وإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إحدى ركائز السياسة الخارجية النشطة للرياض، وفي المقابل، كان الاتفاق الذي أُبرم عام 2023 بوساطة صينية بين السعودية وإيران، بداية مرحلة جديدة من التعايش السلمي في المنطقة، يحمل آمالاً واعدةً بمزيد من الاستقرار الإقليمي، إلا أن احتمالات التصعيد العسكري المتزايدة تُعيد المملكة إلى مواجهة خيار مصيري، حيث يصبح الحفاظ على التوازن بين المصالح الاستراتيجية وتجنب الانجرار إلى تداعيات صراع واسع النطاق، مهمةً شديدة التعقيد أمام صُنّاع القرار.
ويبقى السؤال الجوهري: ما هي الأهداف والمصالح التي تسعى المملكة لتحقيقها في ظل هذه الأزمة؟ وما هي التحديات التي تواجهها في خضم هذا الوضع المتأزم؟ وهل ستتمكن من الحفاظ على سياستها التوازنية بين القوى الكبرى كإيران، الولايات المتحدة، الصين وروسيا؟
1. موقع الرياض الهش: بين الحليف التقليدي والجار القريب
بعد توقيع الاتفاق بين إيران والسعودية في بكين، دخلت العلاقات بين البلدين مرحلةً جديدةً، رافقتها زيارات دبلوماسية متبادلة وإعادة فتح السفارات، فالسعودية، التي أخفقت في تحقيق أهداف سياستها التوسعية في اليمن ولبنان ومناطق أخرى، أدركت تبعات التوتر الاقتصادية والأمنية في منطقة الخليج الفارسي، فسعت إلى تخفيف الاحتقانات الإقليمية وترسيخ الاستقرار لتنفيذ مشاريعها التنموية الطموحة، ولا سيما "رؤية 2030"، ومع ذلك، استمر التنافس الخفي بأشكال أخرى، عبر تدخلات سعودية في شؤون سوريا ولبنان والعراق، حيث تضغط الرياض - بالتوازي مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني - على الحكومة اللبنانية لنزع سلاح حزب الله.
غير أن الهجمات الأمريكية والإسرائيلية الأخيرة على منشآت إيرانية، وما تلاها من ردود إيرانية بصواريخ وطائرات مسيرة، ألهبت المنطقة بشدة، وفي خضم هذا، أثارت تصريحات المسؤولين العسكريين الإيرانيين - التي اتهمت فيها بعض دول المنطقة بعدم الالتزام بمبدأ الحياد وتقديم معلومات أو خدمات دفاعية للمعتدين - تساؤلات المحللين حول دور السعودية، خاصةً مع عدم ذكر أي دولة بالاسم، وصمت الرياض الذي زاد من الغموض.
2. استراتيجية السعودية: موازنة هشة أم دعم خفي؟
تكشف السياسة الخارجية السعودية تجاه الأزمة الإيرانية-الأمريكية، عن سعي حثيث للحفاظ على توازن هش. ففي السنوات الأخيرة، سعت الرياض عبر تحركاتها الدبلوماسية إلى تقديم صورة دولة محايدة قادرة على لعب دور الوسيط، إن زيارة "عباس عراقجي" الدبلوماسي الإيراني البارز إلى الرياض بعد مشاركته في قمة "بريكس" بالبرازيل، وحوار وزير الدفاع السعودي مع رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، كلها مؤشرات على إرادة الطرفين للحفاظ على قنوات الاتصال.
لكن النظرة السعودية للملف الإيراني تبدو مزيجًا من القلق والفرصة. فمن جهة، أي مواجهة مباشرة بين إيران وأمريكا أو الكيان الصهيوني، وانعكاساتها على منطقة الخليج الفارسي، تهدد أمن الطاقة والاستثمارات في مشاريع "رؤية 2030"، واستقرار السعودية الداخلي، ومن جهة أخرى، قد يُضعف تدهور "محور المقاومة" بسبب السياسات العدوانية لترامب ونتنياهو - في نظر بعض الأوساط بالرياض - ليفتح المجال أمام الهيمنة السعودية كقوة سنية مهيمنة.
لكن ثمة تقارير تشير إلى أن بعض الأنظمة الرادارية والمراقبة في الدول الخليجية - وعلى رأسها السعودية - قد قدمت معلومات للمعتدين خلال الهجمات الأخيرة. وإن لم تُنشر وثائق رسمية، إلا أن العلاقة الأمنية القديمة بين الرياض وواشنطن تعزز هذه الاحتمالات، وخاصةً بعد اتهامات مسؤولي الجمهورية الإسلامية لدول عربية بدور "درع واقٍ" للأراضي المحتلة ضد الصواريخ الإيرانية خلال عمليات "الوعد الصادق 1 و2".
3. الأهداف والملاحظات الاستراتيجية للرياض
الحفاظ على الأمن الداخلي والإقليمي: تدرك المملكة العربية السعودية تمام الإدراك أن أي مواجهة شاملة بين إيران والولايات المتحدة لن تقتصر على أطرافها المباشرة، بل ستتسع رقعتها لتشمل المنطقة بأسرها، ما يجعل المنشآت الاقتصادية والأمنية السعودية، وعلى رأسها المنشآت النفطية، عرضةً لهجمات انتقامية، إن أقل ما يمكن أن تؤول إليه هذه التوترات هو خلق حالة من عدم الاستقرار، ما قد ينعكس سلبًا على جذب الاستثمارات الأجنبية إلى المشاريع الطموحة مثل مشروع “نيوم”، ولا تزال الذاكرة الأمنية للرياض تحمل آثار الهجمات التي استهدفت منشآت “أرامكو” في عام 2019، لتكون درسًا حاضرًا في حساباتها الاستراتيجية.
إضعاف محور المقاومة نسبيًا: من منظور بعض النخب الحاكمة في الرياض، فإن أي مواجهة مباشرة بين إيران من جهة، والولايات المتحدة أو "إسرائيل" من جهة أخرى، قد تتيح فرصةً لتقليص نفوذ طهران وإضعاف حلفائها الإقليميين، مثل حزب الله في لبنان، وأنصار الله في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، ومع ذلك، فإن السعي لتحقيق هذا الهدف يجب ألا يكون على حساب الأمن الوطني أو المكانة الدبلوماسية للمملكة.
تجنب التباعد مع الصين وروسيا: لقد خطت المملكة العربية السعودية خطوات جادة نحو تنويع شراكاتها الاستراتيجية، بما في ذلك الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، وأي انحياز واضح للسياسات العدائية الأمريكية في المنطقة، قد يؤدي إلى إضعاف موقع الرياض لدى كلٍّ من بكين وموسكو، وهو ما لا يتّسق مع طموحات المملكة في تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية.
التحديات التي تواجه المملكة
تراجع الثقة الإيرانية: إذا ما اقتنعت طهران بأن السعودية قد لعبت دورًا استخباراتيًا أو دفاعيًا في الهجمات الأخيرة، فإن العلاقات بين البلدين ستشهد تدهورًا سريعًا، وفي مثل هذا السيناريو، لن تقتصر التداعيات على إبطال الاتفاقيات الأخيرة بين الجانبين، بل قد تتكرر سيناريوهات مشابهة للهجوم الإيراني على قاعدة “العديد”، ما يضع أمن المملكة تحت تهديد مباشر. وقد أثبتت إيران من خلال هذا الهجوم أنها لن تتهاون مطلقًا في الدفاع عن خطوطها الحمراء الأمنية، وأن أمن الخليج الفارسي ومصالحه النفطية إما أن تشمل الجميع أو لا تشمل أحدًا.
الضغوط الأمريكية لتفعيل دور أكبر: من وجهة نظر واشنطن، تُعد السعودية حليفًا محوريًا في سياستها لاحتواء إيران، وإذا ما تبنت الرياض موقفًا محايدًا أو متحفظًا، فقد تستخدم الولايات المتحدة أدوات ضغط مختلفة، مثل تقليص مبيعات الأسلحة، أو تقليل الدعم العسكري، أو حتى خفض مستوى التفاعل الدبلوماسي. وتشير بعض المؤشرات إلى أن واشنطن ترغب في استغلال نفوذ الرياض لفتح باب الحوار مع طهران. غير أن التجارب السابقة، ولا سيما مع إدارة ترامب التي أعطت الضوء الأخضر لـ "إسرائيل" لشنّ هجمات أثناء المفاوضات، تجعل إيران أكثر حذرًا وأقل ثقةً، ما يحدّ من قدرة السعودية على لعب دور فعال في تهدئة النزاع.
تصاعد المخاطر في الخليج الفارسي: إن أي صراع جديد في المنطقة، وخاصةً في محيط مضيق هرمز، قد يؤدي إلى تعطيل أمن الملاحة البحرية وصادرات النفط السعودية، وتدرك الرياض أن مثل هذا السيناريو قد يكون كارثيًا على اقتصادها.
مستقبل السياسة الإيرانية وصبر طهران الاستراتيجي
حتى الآن، التزمت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بسياسة “الصبر الاستراتيجي” تجاه المواقف الغامضة لبعض دول المنطقة، بما في ذلك السعودية، حرصًا على الحفاظ على مساحات الدبلوماسية مع جيرانها، ومع ذلك، فإن هذه السياسة ليست بلا نهاية، فإذا ثبت تورط أي من دول المنطقة في عمليات معادية لإيران، فقد تتخذ طهران خطوات تتراوح بين التحذيرات الصريحة والتحركات الميدانية على مستوى العمليات.
تتسم السياسة الإيرانية بالحذر، حيث لا ترغب طهران في أن تؤدي التوترات مع السعودية إلى تقويض مشاريعها الدبلوماسية الإقليمية، لكن التجربة أثبتت أن إيران، في مواجهة التهديدات المتكررة والنوايا العدائية، لا تتردد في استخدام أدوات الردع بحزم.
توصيات استراتيجية
في المحصلة النهائية، تقف المملكة العربية السعودية اليوم على مفترق طرق حساس ومصيري، إن الانسياق الأعمى وراء السياسات الأمريكية المزعزعة للاستقرار في المنطقة، قد يحقق مكاسب آنية عبر كسب رضا واشنطن، لكنه سيؤدي على المدى البعيد إلى تدمير العلاقات الناشئة للرياض مع جيرانها وتقويض مكانتها الإقليمية.
السياسة الأمثل للرياض ليست في تبني موقف الموازنة السلبي، بل في اتخاذ خطوات جريئة تعيد تشكيل سياستها الخارجية على أسس جديدة، ويشمل ذلك إعلان رفضها الواضح لأي عمليات عسكرية أمريكية أو إسرائيلية ضد إيران، وتعزيز انضمامها إلى مجموعة “بريكس”، والاستمرار في جهود التهدئة مع محور المقاومة، هذه الخطوات قد تشكّل أساسًا لإعادة تعريف دور المملكة في المنطقة بما يتناسب مع تطلعاتها الاستراتيجية.