الوقت - طفت على سطح الأحداث في الأسابيع المنصرمة، الخلافات المستعرة بين حكومة إقليم كردستان والحكومة المركزية العراقية، لتتربع من جديد على عرش المشهد الإعلامي، ويبرز من بين بؤر التوتر المشتعلة، قضية تعليق صرف رواتب موظفي الإقليم، الأمر الذي أضرم نار الأزمة الاقتصادية في المنطقة، وأجّج لهيب السخط الشعبي العارم.
لوّحت الحكومة المحلية في أربيل بسيف القضاء، متوعدةً باللجوء إلى المحكمة الفيدرالية لمقاضاة رئيس الوزراء العراقي ووزير المالية، إذا استمر نهج حجب الرواتب والتنكر للالتزامات المالية الفيدرالية، وجاء هذا الموقف الحاد رداً على رسالة طيف سامي، وزير المالية العراقي، المؤرخة في الـ 28 من مايو 2025، التي أعلن فيها عجز وزارته عن مواصلة ضخّ حصة الإقليم من الموازنة الحكومية، متذرعاً بتجاوز الإقليم للسقف القانوني المقرر لنصيبه (12.67 بالمئة).
ردّت وزارة المالية في الإقليم بلهجة حازمة، مؤكدةً في بيان رسمي أن تحديد حصة الإقليم استناداً إلى النفقات المصروفة، يمثّل خرقاً سافراً للدستور العراقي، وأن الأصل أن تُحدد حصة الإقليم وفقاً للإيرادات الفيدرالية الحقيقية، لا وفقاً لمستويات الإنفاق.
غير أن بغداد لا تزال تلوّح باتهام أربيل بالتعتيم المالي، مشيرةً إلى أن الإقليم جنى قرابة 19.9 ألف مليار دينار من ريع النفط وغيره من الموارد منذ عام 2023 حتى أبريل 2025، في حين لم يودع في خزائن الحكومة الفيدرالية سوى 598.5 مليار دينار.
رغم احتدام الأزمة، تشير تقارير الإعلام العراقي إلى أن الحكومة الفيدرالية تعتزم في الأيام القليلة المقبلة، إرسال دفعة مالية عاجلة إلى الإقليم لامتصاص الاحتقان، بغية تمكينه من صرف رواتب موظفيه قبل حلول عيد الأضحى المبارك، غير أن هذا الإجراء - إن نُفذ - لن يكون سوى مسكن مؤقت لألمٍ مزمن، ولن يضع حداً نهائياً لهذا الصراع المستعصي.
يكفل الدستور العراقي، ولا سيما في مادته 121، للإقليم وضعية المنطقة الفيدرالية ذات الصلاحيات الذاتية التي تخوّلها إدارة شؤونها الداخلية كالإدارة المحلية والموارد، إلا أن المادة 112 تعهّد إلى الحكومة الفيدرالية بزمام إدارة موارد النفط والغاز، وتلزمها بتوزيع الثروة النفطية توزيعاً عادلاً بين أرجاء البلاد كافةً.
جذور الخلاف المستحكم بين أربيل وبغداد
تضرب أزمة رواتب موظفي الإقليم بجذورها في الخلافات القانونية والهيكلية بين أربيل وبغداد، حول سبل إدارة الثروات الطبيعية وأحقية إبرام العقود مع الجهات الأجنبية، وهو نزاع متأصل في تباين تفسيرات الطرفين للدستور العراقي، وقد بذلت مساعٍ دبلوماسية حثيثة لرأب هذا الصدع على مدى سنوات بين وفود الجانبين، بيد أنها لم تثمر عن نتائج ملموسة، بل تعقدت المسألة مؤخراً بظهور عقدة جديدة في نسيج هذا الخلاف المتشابك.
أعلنت حكومة أربيل في الشهر المنصرم عن توقيعها عقوداً مع كبريات الشركات الأمريكية للاستثمار في حقلي الغاز “ميران وطوبخانة-كرداميرا”، هذا الاتفاق الغازي الذي أُبرم دون تنسيق أو موافقة بغداد، أخرج قطار المفاوضات عن سكته، إذ تتمسك أربيل بأحقيتها في التوقيع المباشر على العقود مع الشركات الأجنبية، بينما تراه الحكومة الفيدرالية تجاوزاً صارخاً للدستور وقوانين البلاد.
لقد دأبت الحكومة الفيدرالية منذ عام 2020 على تعليق صرف حصة الإقليم من الميزانية أو تقييدها بشروط، نظراً لتنصّل أربيل من التزاماتها النفطية. فبموجب قانون ميزانية العراق، يتعين على الإقليم تصدير 400 ألف برميل نفط يومياً عبر شركة سومو الوطنية، وإيداع عائداتها في خزائن الحكومة المركزية، غير أنه تقاعس عن الوفاء بهذا الالتزام، في حين يلقي مسؤولو أربيل بتبعة التقصير على كاهل بغداد.
وعلى هذا المنوال، اتهمت وزارة الموارد الطبيعية في الإقليم بغداد بانتهاج “سياسة تجويع” تستهدف أبناء كردستان، زاعمةً أنها لم تتسلم فلساً واحداً رغم تسليمها ما يربو على 11 مليون برميل نفط للحكومة الفيدرالية، وتؤكد أربيل أن هذا يشكّل نكثاً صريحاً للعهود والالتزامات المالية التي قطعتها بغداد على نفسها، مشيرةً إلى أنه منذ الـ 4 من أبريل 2023، تم التوصل إلى اتفاق مع وزارة النفط لاستئناف الصادرات، بيد أن بغداد تنكّبت عن تنفيذه.
وفي هذا المضمار، يتهم مسؤولو أربيل الحكومة المركزية بالتقصير في توفير البنى التحتية الضرورية لتنفيذ القانون، حيث نُقل عن محمد زنكنة، المحلل السياسي الكردي قوله: “أبلغت حكومة بغداد أربيل أن المستودعات الفيدرالية لا تستوعب سوى 80 ألف برميل، وحتى هذه الكمية الضئيلة لم تُدفع قيمتها لأربيل، ولم يتم التوافق على سعر النفط أصلاً”.
تأتي هذه الاتهامات المتبادلة في وقتٍ تدحض فيه الوثائق البرلمانية مزاعم أربيل، فقد كشفت مستندات نشرها دارا سكانياني، نائب كتلة الاتحاد الإسلامي الكردستاني في البرلمان العراقي، أن الحكومة الفيدرالية ضخّت في خزائن إقليم كردستان ما يفوق 12 مليار دولار خلال الفترة الممتدة من 2023 إلى 2025، رغم عدم إفصاح الإقليم عن أي حصة من عائداته النفطية للخزينة المركزية.
أربيل ومعضلة البيع الآجل للثروة النفطية
تتصاعد موجة جديدة من النزاع المحتدم بين الإقليم وبغداد حول الثروة النفطية في خضم مأزقٍ مالي خانق تغرق فيه أربيل، إذ تئنّ تحت وطأة ديون خارجية باهظة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة بيع النفط سلفاً لمشترين أجانب.
في جوهر المعضلة، حتى لو تمكنت حكومة الإقليم من نسج خيوط التفاهم لتسوية قضية الميزانية مع الحكومة المركزية، فإنها ستظل مكبلة اليدين، عاجزةً عن تسليم النفط إلى بغداد لسنوات مديدة قادمة، إذ أقدمت على بيع شطر وافر من صادراتها النفطية قبل استخراجها.
يميط تقرير “مؤسسة المتوسط” اللثام عن حقيقة مروعة، فحكومة الإقليم تقف في عام 2025 على شفا هاويةٍ مالية سحيقة، حيث تتكدس ديونها لتبلغ قرابة 33 مليار دولار، وعلى الرغم من ضبابية المعلومات الدقيقة حول حجم ما يثقل كاهل الإقليم من ديون للمؤسسات المصرفية الأجنبية، فإن البيانات المتاحة تكشف أن المنطقة استقطبت خلال الفترة الممتدة من عام 2023 حتى أبريل 2025 قروضاً تناهز 2.607 تريليون دينار عراقي (ما يقارب ملياري دولار) من المصارف الحكومية والتجارية.
وبناءً على ذلك، فإن السواد الأعظم من الديون الخارجية للإقليم، ينبع على الأرجح من آليات تمويلية معقدة كعقود البيع المسبق للنفط، والمستحقات المتأخرة للشركات الخدمية العالمية، وغيرها من أساليب التمويل غير التقليدية.
بيد أن هذا ليس سوى غيض من فيض، فأربيل تجابه، إضافةً إلى أثقال الديون الخارجية، تحدي المدفوعات الداخلية المستعصي، فوفقاً لما أورده “كردبرس”، تتراكم الديون المتعلقة بمتأخرات رواتب موظفي إقليم كردستان في حكومتي مسرور بارزاني السابعة ونيجيرفان بارزاني الثامنة لتبلغ نحو 24 ألف مليار دينار، رقمٌ يكاد يفوق التصور.
انطلاقاً من هذه الحقائق الصارخة، تتمسك الحكومة المركزية بموقف صارم مفاده بأن على الإقليم أولاً أن يفي بالتزاماته القانونية، فيما يتصل بتسليم النفط ليستحق نصيبه من الميزانية.
أفضت هذه السياسة إلى وقوع أربيل في براثن أزمة سيولة حادة، ما أوقعها في مأزق عويص يتمثل في عجزها عن صرف رواتب موظفيها في مواعيدها المقررة، وتنبئ التقارير بأن طوائف من الموظفين ظلت محرومةً من رواتبها لشهور متتالية، ما أجّج نيران السخط الشعبي لتبلغ أوجها خلال العقد المنصرم.
وتتجلى مظاهر هذا التحول في تصاعد موجة الانتقادات عبر منابر الإعلام وفضاءات التواصل الاجتماعي، ضد الأحزاب المتربعة على عرش السلطة (وعلى رأسها الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني).
يصرح العديد من منتسبي القطاع الحكومي بأنه لو آلت إدارة مبيعات الطاقة إلى الحكومة المركزية، لتمكنوا على أقل تقدير من تقاضي رواتبهم بانتظام وشفافية، وهذا بدوره قد أسهم في تقويض أركان شرعية أربيل في رأي الجماهير.
تعلق أربيل بأهداب الأمل الأمريكي
يبدو أن لجوء حكومة الإقليم مجدداً إلى ساحات القضاء لمقاضاة الحكومة المركزية، رغم إخفاقاتها المتكررة في المحاكم الداخلية والدولية، ينمّ عن رهانٍ خاص هذه المرة على الدعم الأمريكي، ويلوح في الأفق أن إبرام عقود غازية جديدة مع عمالقة الشركات الأمريكية، ومساندة بعض أقطاب السياسة الأمريكيين لاستقلالية الإقليم في قطاع الطاقة، يشكّل حجر الزاوية في هذه الاستراتيجية الجديدة.
نظراً لأن عائدات النفط العراقي تودع في خزائن مصرفية بالولايات المتحدة ومن ثم يجري توزيعها، تتوهم أربيل أن بوسع واشنطن إرغام الحكومة المركزية، من خلال عصا الضغط المالي، على دفع نصيب الإقليم من الميزانية، غير أن المحللين يرون أن الولايات المتحدة تقف مكتوفة اليدين عن التدخل المباشر لاعتبارات قانونية وسياسية واستراتيجية.
ذلك أن واشنطن تتوجّس خيفةً من أن يفضي أي توظيف أداتي لمقدرات العراق المالية، إلى زعزعة ميزان القوى في بغداد وتأجيج أوار التوترات الداخلية، كما أن التدخل في آلية توزيع الثروة، قد يعرض أمريكا لسهام الاتهام بالانحياز، ولئن كان بوسع الدعم الدولي أن يولد ضغطاً دبلوماسياً، فإنه لا يكفل النصر القانوني في ساحات القضاء ضد بغداد، حيث يظل الدستور وقوانين الميزانية هما الفيصل والحكم.
لکن بعض صناع القرار العراقيين يبدون تفاؤلاً حذراً بإمكانية التوصل إلى مخرج من هذه الأزمة المستعصية، وفي هذا المضمار، تنبأ مختار الموسوي، النائب وعضو منظمة بدر، بأن يهتدي الطرفان إلى حلٍ توافقي للقضية، غير أنه يستدرك قائلاً إنه ليس من المستساغ أن يمارس الإقليم ضغوطاً على الحكومة الفيدرالية كلما وقع في مضيق السيولة، بل يتعين عليه تدبير شؤونه وفقاً لميزانيته الخاصة.
في محصلة القول، تجد أربيل نفسها في صراعها مع بغداد حول ملف النفط والغاز، ولا سيما في المحافل الرسمية والقانونية الداخلية، مثقلةً بقيود الضعف القانوني، ومحدودية النفوذ السياسي، وإرث ثقيل من الممارسات المتعارضة مع القوانين الفيدرالية، ما يقوّض بشدة فرص نجاحها في معركتها القضائية ضد الحكومة المركزية، والحقيقة التي لا مراء فيها، هي أن الأزمة الاقتصادية للإقليم متجذرة في بنية متهالكة وغير شفافة لإدارة الموارد، ومن دون إصلاحات جذرية داخلية، لن يفلح أي ضغط خارجي أو صك قانوني في انتشال الإقليم من وهدته.
ويذهب بعض الخبراء إلى أن مسار انحسار الاستقلال الاقتصادي للإقليم قد شقّ طريقه بالفعل، وفي حال استمرار الأزمة على حدتها، سيغدو تفويض صلاحيات محورية للحكومة المركزية، بما في ذلك زمام قطاع الطاقة، أمراً لا مناص منه، استجابةً لصوت الشعب وضغوطه المتصاعدة.