الوقت- في تحول غير مسبوق، كشفت مصادر خليجية رفيعة المستوى لصحيفة إسرائيلية، عن عقد لقاءات رسمية مباشرة بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين خلال الفترة الأخيرة، وسط تسارع في مؤشرات الانفتاح السوري على أطرافٍ كانت حتى وقت قريب تُصنّف ضمن معسكر "العدو التاريخي".
وفي تطوّر موازٍ، ذكرت المصادر ذاتها أن دمشق بدأت بالفعل بطرد عدد من القادة الفلسطينيين من أراضيها، تنفيذاً لتعهدات قدّمها زعيم "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني للولايات المتحدة، في إطار وساطة غير معلنة.
ورغم أن هذه المعلومات لم تصدر عن جهات رسمية سورية أو إسرائيلية، إلا أن توقيت تسريبها، والجهة التي نشرتها، والمضامين التي تحملها، تكشف على ما يبدو عن عملية إعادة هندسة للمشهد السياسي السوري، بوساطة أو ضغط إقليمي دولي، ربما يكون هدفها إخراج دمشق من العزلة، مقابل تقديم "تنازلات سياسية" كان يُظنّ لوقت طويل أن النظام السوري غير مستعد لدفعها.
من التسريبات إلى الواقع
الخبر الذي نشرته صحيفة "ماكور ريشون" العبرية، نقلاً عن مصادر دبلوماسية خليجية، حمل عنواناً صارخاً ومفاجئا: "ذاب الثلج وبان المرج"، وهي عبارة شائعة في الشارع السوري، عادةً ما تُستخدم للتعبير عن انكشاف المستور بعد زوال الغطاء، في تلميح إلى أن ما كان يُدار خلف الكواليس بين دمشق وتل أبيب قد بدأ يظهر للعلن.
وحسب الصحيفة، فإن اللقاءات بين الجانبين لم تكن أمنية فحسب، بل شملت ملفات سياسية واقتصادية، وسط تأكيدات بأن رجال أعمال إسرائيليين بينهم شخصيات يهودية سورية الأصل بدؤوا بإجراء اتصالات فعلية لتسويق منتجاتهم وخدماتهم داخل السوق السورية، بالتنسيق مع أطراف نافذة في دمشق.
دمشق تطرد قادة فلسطينيين: إعادة تموضع أم فك ارتباط؟
واحدة من أبرز النقاط التي أثارت الجدل في التقرير العبري، هي الإشارة إلى أن طرد عدد من القادة الفلسطينيين من دمشق في مقدمتهم شخصيات مرتبطة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي لا يأتي في سياق داخلي محض، بل يُعد جزءاً من تفاهمات إقليمية دولية، تتضمن تعهدات قدمها "الجولاني" للإدارة الأمريكية، في إطار انفتاحه على التنسيق غير المباشر مع واشنطن.
وتكشف الصحيفة أن زعيم "هيئة تحرير الشام"، الذي كان حتى سنوات قليلة يُصنّف ضمن التنظيمات الإرهابية، يحاول إعادة تقديم نفسه كشخصية سياسية محلية قابلة للدمج في معادلة "سوريا الجديدة"، بدعم قطري تركي، وغضّ طرف أميركي، في مقابل التزامات صريحة أبرزها إخراج الفصائل الفلسطينية المسلحة من الشمال السوري، وعدم اعتراض أي تقارب سوري إسرائيلي محتمل.
الاقتصاد بوابة التطبيع... و"إسرائيل" تتحرّك
ووفقاً للمصادر الخليجية التي تحدثت للصحيفة العبرية، فإن عدداً من رجال الأعمال الإسرائيليين يسعون حالياً لاختراق السوق السورية من بوابة إعادة الإعمار، وتحديداً في مجالات الطاقة والبنية التحتية والدواء، وتشير المعلومات إلى وجود رغبة مشتركة لدى الطرفين السوري والإسرائيلي في إبقاء هذه التحركات في إطار "الاستثمار غير السياسي"، على الأقل في المرحلة الحالية، تجنباً لأي ردّ فعل شعبي سلبي.
ويُعتقد أن من بين الشخصيات المنخرطة في هذه الاتصالات عددٌ من رجال الأعمال المرتبطين بالدوائر الاقتصادية في "إسرائيل"، والذين يتمتعون بعلاقات وثيقة مع صناع القرار هناك، ويُقال إنهم يحظون بقبول نسبي داخل بعض الأوساط في دمشق، بالنظر إلى قدرتهم على توفير غطاء اقتصادي ومالي قد يُسهم في تخفيف العقوبات الغربية المفروضة على النظام.
خلفيات إقليمية: إعادة تموضع أم استسلام سياسي؟
المراقبون يعتبرون هذه التطورات إن صحّت جزءاً من تحول تدريجي في السياسة السورية الرسمية، برعاية روسية أو ربما إماراتية سعودية، تهدف إلى فك العزلة عن دمشق عبر بوابة التسويات الإقليمية، في ظل ضغوط اقتصادية خانقة.
وفي هذا السياق، لا يُستبعد أن يكون الانفتاح السوري الإسرائيلي جزءاً من "صفقة إقليمية موسعة"، تُشارك فيها دول عربية نافذة، وتُغطى أمريكياً عبر تفاهمات أمنية اقتصادية، على أن يتخلّى النظام السوري تدريجياً عن خطاب "الممانعة" مقابل ضمان بقائه في السلطة، والحصول على مكاسب اقتصادية.
من يربح ومن يخسر؟
إذا ما تطور هذا المسار نحو تطبيع سوري إسرائيلي فعلي، فإن أبرز الخاسرين سيكونون:
- الفصائل الفلسطينية التي طالما وجدت في دمشق ملاذاً استراتيجياً.
- الخطاب القومي العربي التقليدي، الذي سيرى في هذا التقارب انهياراً لما تبقى من رمزية "الصمود السوري".
أما الرابحون، فقد يكونون:
- النظام السوري، الذي سيكسر العزلة ويعيد تدوير نفسه.
- "إسرائيل"، التي ستحقق مكسباً استراتيجياً من دون قتال.
- بعض دول الخليجیة، التي قد ترى في هذا التحول خطوة لضبط التوازنات في المنطقة، وتقليص النفوذ التركي.
في النهاية سوريا إلى أين؟ لم تعد الأسئلة المطروحة في الملف السوري تدور حول شكل السلطة أو هوية من يديرها، بل حول طبيعة الدور الذي ستلعبه سوريا في النظام الإقليمي الجديد، وهل سيتم دمجها عبر بوابة عربية خالصة، أم من خلال مسار ترعاه "إسرائيل" والولايات المتحدة ضمن ترتيبات أمنية واقتصادية أوسع نطاقاً؟
وفي ظل مؤشرات التطبيع المتتالية بين "إسرائيل" وعدد من الدول العربية، فإن سوريا قد لا تكون استثناءً، بل مجرد حلقة جديدة في سلسلة تسويات يعاد فيها رسم خرائط النفوذ، بعيداً عن الشعارات التقليدية، وبأدوات أكثر براغماتية.
لكن حتى ذلك الحين، يبقى كل ما نُشر حتى الآن في خانة "التسريبات غير المؤكدة"، مع احتمال أن يكون بعضها موجّهاً لتهيئة الأرضية، أو لاختبار ردود الفعل، أو حتى للضغط على النظام السوري لتقديم تنازلات إضافية، لكن ملامحه لم تتضح بعد.