الوقت- رغم انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان في أغسطس 2021، لا تزال قاعدة "بَغرام" الجوية تمثل معقلاً استراتيجياً في خريطة النفوذ الأمريكي العالمي، وخاصة في ظل تزايد التنافس الجيوسياسي مع الصين وروسيا وإيران، فبينما يُصوَّر الانسحاب الأمريكي كإغلاق تام لصفحة تدخل عسكري استمر عشرين عاماً، تكشف معطيات ميدانية وتصريحات سياسية متزايدة أن القاعدة لم تُغلق فعلياً، بل أعيد توظيفها في إطار استراتيجية "الوجود غير المباشر"، ضمن إدارة جديدة للصراع في آسيا.
تصريحات ترامب... ما بين الاعتراف والإنذار
أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إحياء الجدل حول بقاء القوات الأمريكية في بَغرام، حين قال في مايو 2024 إن القاعدة "لم تُغلق بالكامل" وأنها "تبعد ساعة واحدة فقط عن الصين"، مؤكداً أنها تحت السيطرة الأمريكية أو على الأقل لم تُسلّم كما يبدو، كما أشار إلى أن الصين تقوم بصناعة صواريخ نووية على مقربة من القاعدة، فيما بدا تحذيراً ضمنياً من تحول القاعدة إلى ساحة تنافس خطرة.
تصريحات ترامب تعزز من صحة ما تداوله مراقبون منذ فترة حول وجود بنود سرية في "اتفاق الدوحة" الموقّع مع طالبان عام 2020، والذي مهد لانسحاب القوات الأمريكية، وبينما تصرّ حركة طالبان على نفي أي وجود أجنبي في البلاد، تحدثت تقارير إعلامية في أبريل الماضي عن هبوط طائرة عسكرية أمريكية من طراز C-17 في بَغرام، حاملة معدات استخبارية وشخصيات رفيعة، من بينها نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA). نفى المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد هذه التقارير ووصفها بـ “الدعاية"، لكنه لم يقدّم أي أدلة على تفنيدها.
الأهمية الاستراتيجية: أكثر من مجرد قاعدة عسكرية
تقع قاعدة بَغرام الجوية في ولاية بروان على بُعد 40 كيلومتراً شمال العاصمة كابول، وخلال العقدين الماضيين، كانت القاعدة مركزاً للعمليات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية، وقاعدة انطلاق للعديد من الهجمات والغارات الجوية ضد طالبان وتنظيم القاعدة، فضلاً عن أنها تضم شبكة اتصالات متقدمة ومخابئ للأسلحة والمعدات.
لكن التحول اليوم يكمن في تغير دور بَغرام من قاعدة عمليات ميدانية إلى منصة مراقبة وتدخل غير مباشر، تُستخدم فيها التقنيات المتقدمة والطائرات المسيرة، وربما عملاء الاستخبارات أو عناصر من شركات أمن خاصة، لتوجيه السياسة الأمريكية في أفغانستان والمنطقة دون الحاجة لتورط عسكري مباشر.
قاعدة بديلة للعراق وملاذ للنفوذ الأمريكي
مع تصاعد الهجمات على القوات الأمريكية في العراق، وارتفاع أصوات المطالبات بخروجها، بدأت واشنطن البحث عن بدائل استراتيجية، بعيداً عن بيئة غير آمنة كالعراق، هنا برزت بَغرام كخيار مثالي: قاعدة محمية، بعيدة عن التوترات الطائفية، وتسمح بمراقبة شاملة للأوضاع الإقليمية، وخصوصاً في غرب آسيا وآسيا الوسطى.
إن تموضع أمريكا في بَغرام جزء من سياسة "الانسحاب المتحكَّم فيه"، حيث لا تغادر واشنطن ساحة الصراع بشكل نهائي، بل تعيد ترتيب أوراقها لتظل ممسكة بخيوط التأثير، سواء عبر الاستخبارات أو الاقتصاد أو القوة الناعمة والضغوط السياسية.
بَغرام في قلب المعركة مع الصين وروسيا وإيران
ترتبط الأهمية القصوى لبَغرام اليوم بالتنافس المتصاعد مع القوى الكبرى في المنطقة. بالنسبة للصين، فإن القاعدة تشكل تهديداً مباشراً لمشروع "الحزام والطريق" الذي يشمل استثمارات ضخمة في البنية التحتية والموارد الأفغانية، كما تخشى بكين من استخدام القاعدة للتجسس على مقاطعة "شينجيانغ" ذات الغالبية المسلمة، والتي تقع بالقرب من الحدود الأفغانية، وتشهد منذ سنوات توتراً أمنياً وتدقيقاً دولياً.
أما روسيا، التي تنظر إلى آسيا الوسطى كمنطقة نفوذ تقليدية، فإن استمرار الوجود الأمريكي في بَغرام يمثل خرقاً لمجالها الحيوي، واشنطن عبر القاعدة تقترب أكثر من الخاصرة الروسية الجنوبية، وتتيح لنفسها فرصة مراقبة التحركات الروسية في الجمهوريات الإسلامية المجاورة.
إيران بدورها، وهي الجار الغربي لأفغانستان، تنظر بعين القلق إلى استمرار الحضور الأمريكي غير المعلن، وخاصة بعد أن عززت علاقاتها الاقتصادية والسياسية غرب أفغانستان، فبالنسبة لطهران، تُعدّ بَغرام مركزاً استخباراتياً أمريكياً يهدد استقرار مجالها الحيوي، حتى وإن لم يُستخدم للأغراض العسكرية المباشرة.
إدارة جديدة للصراع من بعيد
تكشف تطورات بَغرام عن تحول عميق في العقيدة العسكرية والسياسية الأمريكية، فبدلاً من الحروب المفتوحة المكلفة، تميل واشنطن الآن إلى إدارة الصراعات عن بُعد، عبر أدوات أكثر مرونة: القواعد الجوية المتقدمة، الأقمار الصناعية، الطائرات المسيرة، والعقوبات الاقتصادية، وهذا ما يجعل بَغرام اليوم أكثر خطورة مما كانت عليه حين كانت قاعدة صراع مباشر.
كما تعكس القاعدة أيضاً هشاشة "السيادة الوطنية" لحكومة طالبان، التي تحاول إقناع المجتمع الدولي بأنها تسيطر على كامل التراب الأفغاني، بقاء أي عنصر أجنبي في بَغرام، مهما كان محدوداً، يمثل تحدياً لشرعية الحركة داخلياً وخارجياً.
في النهاية، قاعدة بَغرام ليست من الماضي والقول إن القواعد العسكرية تموت بانتهاء الحروب ليس دقيقاً، فقاعدة بَغرام تُظهر كيف يمكن للبنية التحتية العسكرية أن تتحول إلى أداة جيوسياسية دائمة، لا تقل أهمية عن السفارات أو التحالفات، في ظل عالم متعدد الأقطاب، تبقى بَغرام عين واشنطن المفتوحة في قلب آسيا، ترصد وتضغط وتؤثر، وإن لم تُطلق رصاصة واحدة.