الوقت- في فجر دامٍ جديد من فصول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ارتكب جيش الاحتلال جريمة بشعة أخرى باستهداف الصحفي الفلسطيني حسن إصليح، الذي كان يتلقى العلاج في قسم الحروق بمجمع ناصر الطبي في خان يونس جنوب القطاع، قُتل إصليح بطائرة مسيّرة استهدفت القسم الطبي بشكل مباشر، في انتهاك صارخ لكل القوانين الدولية والإنسانية التي تحمي الصحفيين والكوادر الطبية أثناء النزاعات المسلحة.
يأتي هذا الاغتيال ليعكس مجددًا سياسة ممنهجة تتبعها سلطات الاحتلال لإسكات الأصوات الإعلامية الفلسطينية، وخاصة من يوثّق جرائم الحرب بالصوت والصورة، وحسب إحصائية رسمية، ارتفع عدد الصحفيين الذين استشهدوا في غزة منذ بدء العدوان في أكتوبر 2023 إلى 215 صحفيًا، في واحدة من أكثر الفترات دموية في تاريخ الصحافة المعاصرة.
حسن إصليح: شاهد الحقيقة الذي دفع حياته ثمنًا
الصحفي الشهيد حسن إصليح كان يعمل كمراسل ميداني معروف لدى العديد من المنصات الإعلامية الفلسطينية والدولية، وبرز خلال السنوات الأخيرة بتغطيته الميدانية الحثيثة للعدوان الإسرائيلي على غزة، وخاصة في المناطق الحدودية ومخيمات العودة، في السابع من أبريل الماضي، أُصيب إصليح بجروح إثر قصف إسرائيلي استهدف خيمة الصحفيين داخل حرم مستشفى ناصر، نجا حينها بأعجوبة، لكن إصابته كانت بالغة، وأدخل للعلاج في قسم الحروق.
فجر الثلاثاء 13 مايو 2025، شنّت طائرة مسيّرة غارة جديدة على المجمع الطبي نفسه، مستهدفة بشكل مباشر الغرفة التي كان يُعالج فيها إصليح، ما أدى إلى استشهاده على الفور.
أكد شهود عيان، من ضمنهم الطاقم الطبي، أن الغرفة لم تكن تضم سوى إصليح ومصابَين آخرَين، ما يرجح فرضية أن الهجوم كان اغتيالًا متعمدًا، وقد تداولت مواقع التواصل مقاطع تظهر آثار القصف داخل القسم، ما عزز الاتهامات بارتكاب جريمة حرب.
من العدسة إلى الميدان: مسيرة صحفي مقاتل بالحقيقة
ولد حسن إصليح عام 1987 في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، درس الإعلام في الجامعة الإسلامية، وبدأ حياته المهنية كمصور صحفي يغطي المسيرات الشعبية، وخاصة مسيرات العودة، عمل مع مؤسسات مثل وكالة “صفا” و”شبكة قدس”، ثم أصبح أحد أبرز المراسلين الميدانيين المستقلين، نال شهرة واسعة بعد نشره تقارير ميدانية جريئة توثق جرائم الاحتلال بحق المدنيين، وخصوصاً الأطفال والنساء.
اعتمد على الكاميرا الشخصية ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر تغطيات مباشرة من قلب الأحداث، ما جعله عرضة للاستهداف المتكرر، زملاؤه وصفوه بـ"العدسة التي لا تنام" و"الصوت الصادق لغزة"، وقد كتب أحدهم على "X" (تويتر سابقًا): "قتلوك لأنك صحفي، لأنك لم تصمت، لأنك لم تُزيف الحقيقة".
الصحافة تحت القصف: سياسة ممنهجة لإسكات الأصوات
استهداف الصحفيين ليس حدثًا عرضيًا في غزة، بل يُنظر إليه كجزء من استراتيجية تهدف إلى منع نقل الحقيقة عن جرائم الحرب والعدوان، وتخويف الطواقم الإعلامية وإبعادها عن مناطق الحدث، وتشويه السردية الفلسطينية لمصلحة الرواية الرسمية الإسرائيلية.
وتُظهر بيانات من “مراسلون بلا حدود” و”الاتحاد الدولي للصحفيين” أن "إسرائيل" تتصدر قائمة الدول الأكثر استهدافًا للصحفيين في النزاعات، في تقرير صادر عن “مراسلون بلا حدود” في ديسمبر 2024، ورد أن "من أصل 68 صحفيًا قُتلوا عالميًا عام 2024، كان 45 منهم في غزة وحدها".
كما أفادت لجنة حماية الصحفيينبأن (CPJ) "إسرائيل خرقت اتفاقيات جنيف التي تضمن حماية الصحفيين في مناطق النزاع، ويجب محاسبتها دوليًا".
غضب محلي ودولي: صرخات بلا استجابة
أثار اغتيال حسن إصليح ردود فعل غاضبة على المستوى المحلي والدولي، ونعى المكتب الإعلامي الحكومي في غزة الصحفي الشهيد، وأكد أن "استهدافه داخل مستشفى يمثل قمة الانحدار الأخلاقي والجنائي"، ودعت نقابة الصحفيين الفلسطينيين إلى تدويل قضية الصحفيين الفلسطينيين، وإدراج جرائم الاحتلال ضمن ملفات الجنائية الدولية.
كما طالبت منظمة العفو الدولية بفتح تحقيق مستقل في استهداف الصحفيين بغزة، مشددة على أن "العدالة لا تتحقق بالصمت"، أما على الصعيد الشعبي، فقد ضجّت مواقع التواصل بوسوم مثل: #حسن_إصليح، #الصحفي_الشهيد، #اغتيال_الحقيقة.
تواطؤ الصمت: عندما يُغتال الصحفي مرتين
في سياق الصراع، يُفترض أن تكون الصحافة سلطة رقابية محمية بالقانون الدولي، لكن ما يحدث في غزة هو عكس ذلك تمامًا، الصحفيون يُلاحقون بالكاميرا والقصف والطائرات المسيّرة، ويتم استهدافهم حتى بعد إصابتهم، كما حصل مع حسن إصليح، لا يُفتح تحقيق جاد، ولا يُحاسب أحد.
الصمت الدولي شريك في الجريمة، ومن المخجل أن كثيرًا من وسائل الإعلام العالمية لم تخصص حتى خبرًا عابرًا عن اغتيال إصليح، رغم وضوح الجريمة.
صوت لا يموت: إرث إصليح ومصير الصحافة في غزة
اغتيال حسن إصليح ليس نهاية القصة، هو حلقة جديدة في سلسلة طويلة من استهداف الكلمة الحرة والصورة الصادقة في فلسطين، لكن الكاميرات لن تتوقف، والصوت الفلسطيني سيبقى حيًا ما دام هناك من يروي القصة.
يجب على المنظمات الدولية والصحفية أن تتحرك فورًا من أجل تفعيل آليات المحاسبة الدولية لمرتكبي الجرائم ضد الإعلاميين، وتوفير وسائل حماية فاعلة للصحفيين في مناطق النزاع، والضغط لإدراج استهداف الإعلام ضمن جرائم الحرب في أي محكمة دولية قادمة.
فاستمرار الإفلات من العقاب يعني مزيدًا من الدماء... ومزيدًا من الكاميرات التي تتحول إلى أهداف.